التظاهرات التي دعـت إليهـا قـوى سياسية وحركات احتجاجية الاثنين في مصر، اعتراضا على عودة جزيرتيْ تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، تحمل دلالات سياسية كثيرة عن حال المعـارضة المصرية، والنظـام الحاكم في آن واحد.

خلال الفترة الماضية لم تتحرك قوى المعارضة المختلفة بفاعلية، وكأنها كانت بانتظار قضية ساخنة تدفعها للإعلان عن نفسها، حيث لم تقم بتحركات لافتة، تؤكد بها، عمليا، معارضتها للنظام الحاكم في مصر، وتنتقل من العالم الافتراضي وطقوسه الإلكترونية إلى الشوارع والميادين ونواميسها الحقيقية.

وبصرف النظر عن الجدل الدائر بشأن سعودية أو مصرية الجزيرتين، فإن القاسم المشترك بين من دعوا للتظاهر اليوم، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، هو معارضتهم للنظام، التي بدأت ملامحها تظهر عقب فترة وجيزة من صعود الرئيس عبدالفتاح السيسي لقمة السلطة، حيث رأوا أنه فرط في أرض مصرية، وكأنهم عجزوا عن أن يجدوا قضايا أخرى تدفعهم، من قبل، للخروج إلى الشارع.

هذه واحدة من المآخذ المهمة التي يمكن الوقوف عندها، مع أن هناك حزمة من المشكلات والأزمات، كانت كفيلة أن تدفع المعارضة للاحتجاج، وتجد تجاوبا معها من جانب شريحة كبيرة من المصريين، يعيشون تحت خط الفقر، ولم تظهر ملامح تحسن ملموس على أحوالهم المعيشية في الفترة الماضية.

ولأن قضية جزيرتي تيران وصنافير، تعد من القضايا الوطنية، التي تضيق معها الكثير من المسافات بين القوى السياسية المختلفة، فقد جرى توظيفها جيدا، كما أن تأثيراتها يمكن أن تكون كبيرة على النظام الحاكم الذي يتشبث ليلا ونهارا بالدفاع عن الأرض، وهو ما يشعره بالقلق، في ظل تراكم التحديات الخارجية، خاصة في ملف الحريات وحقوق الإنسان.

التوقيت الذي اختارته المعارضة المصرية للتظاهر تفاعلا مع قضية الجزيرتين (25 أبريل ذكرى تحرير سيناء) له دلالات سياسية تعزز موقفها، ويزيل عنها اتهامات بالتآمر والعمالة، وفقا للصيغة الدارجة التي يتهم بها كل من يعلن عن موقف لا يأتي على هوى النظام المصري.

إعلان المعارضة عن نفسها في الوقت الراهن وبهذه الطريقة ربما يكون مفيدا لها وللنظام المصري أيضا، إذا تمت الاستفادة من الزخم الذي يجري في الشارع الآن، فمصر بحاجة إلى معارضة مدنية قوية ومتماسكة وعاقلة، لأن الفراغ الذي كان سائدا في الفترة الماضية، مكن بعض القوى السياسية المحسوبة على النظام من الاستقواء، وعدم الاهتمام بأي اعتراضات على بعض التصرفات التي تقدم عليها الحكومة، وهو ما يمكن أن يخلق “دكتاتورية” جديدة، مصر في غنى عنها.

قد تكون هذه فرصة حقيقية لتشكيل معارضة مصرية وطنية، بعيدة عن المزايدات الرخيصة، وليست لها علاقة بالحسابات الشخصية، وكل ما يحكمها ابتغاء المصلحة العامة، وعدم الانجرار وراء أي أهداف أيديولوجية، ولها رؤية واضحة ومحددة، وتتحاشى الوقوع في الفخاخ التي ينصبها البعض، إما لتبني أجنداتهم أو لتكريس زعاماتهم الزائفة، والنأي عمن أدمنوا وظيفة المعـارضة، والتي يبدو أنهـم لا يعرفون غيرها.

كانت إحدى نكبات مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013 التفتّت الذي بدت عليه غالبية القوى، والانسحاق أمام النظام الحاكم، والسباق نحو اختراع وسائل مختلفة للدفاع عنه، حتى أن أحدهم طلب إذنا من الرئيس المصري ليكون معارضا له.

هذا العبث وجه ضربة قاتلة إلى جسد الكثير من الشخصيات الوطنية، وجعلها تنزوي اضطرارا، لأنها كانت بين ناري؛ التعرض لهجوم مكثف من الآلة الإعلامية التي تدعي دفاعها عن النظام المصري، والوقوع في براثن تجار السياسة، الذين يحاولون الاستفادة من كل شاردة وواردة لتضخيم ذواتهم، حتى لو جاءت على حساب المصلحة الوطنية.

بالتالي يمكن أن تكون هناك فرصة مواتية لبلورة معارضة، على قاعدة الالتفاف حول مواجهة الأزمات المتراكمة، والبحث عن طرق لمواجهتها، وإيجاد حلول للحد من تفاقمها، وتبني سياسات عاقلة، تمس أوجاع المواطنين مباشرة، وتستند إلى أسس وحقائق موضوعية، ولا تستثمر بعض التطورات التي يتم تضخيمها عمدا للنيل من النظام الحاكم.

الغريب أن هناك فئة، ليست هيّنة، توجه ضرباتهـا وسهامهـا نحـو النظـام، وهي تدعي أنها تدافع عنه، فأحدهم قام خلال الأيام الماضية بالتحريض على ما يشبه الثورة الشعبية، عندما قلل من أهمية تسليح مصر، وطالب بأن توجه أموال السلاح لتحسين مستوى الفقراء، وربما يكون الهدف المعلن نبيلا، لكن المؤكّد أن وراءه خلفيات خبيثة، فالتحـديات التي تواجههـا البلاد تجبرها على عدم التفريط في جاهزيتها العسكرية.

المهم أن الوصول إلى معارضة سياسية ناضجة وقوية، إذا كان ينطوي على جملة من الأهداف التي تصب في صالحها، فهي أيضا تحمل فوائد عظيمة للنظام المصري ذاته، من أبرزها أنها يمكن أن تصبح صمام أمان له، إذ سيكون حريصا وحذرا من الاندفاع وراء اتخاذ قرارات مصيرية، ويعمل حسابا لمدى القبول والرفض في صفوف الرأي العام، ولن يستطيع الإقدام على تصرفات من شأنها أن تثير المخاوف وتلهب المشاعر.

الميزة الكبيرة أن وجود معارضة متماسكة لن يمنع فقط النظام من الوقوع في هفوات سياسية أو اقتصادية، لكن سوف يمنحه قدرة فائقة على مواجهة الصعوبات المحلية، التي تقف في طريق تحقيق الأهداف الرئيسية التي حملتها ثورة يناير وثورة يونيو، وأهمها تجفيف منابع الفساد الذي ينخر بعض مؤسسات الدولة.

كـان المأمـول من نظـام الرئيس عبدالفتاح السيسي أن يـواجه هذه المعضلة مبكرا، غير أنه فضل التريّث والتمهّل، حتى أصبح كثيرون يشككون في إمكانية أن يقوم بهذه الخطوة المنتظرة، حيث تمكنت بعض القطاعات التي تستفيد من الفسـاد، بـل وترعـاه، من أن تكـون لها ذيول وأذرع وأجنحة تـدافع بها عن نفسها، إذا حانت لحظة المواجهة الحتمية، دافعت بما لديها من أسلحة ردع متعددة.

المعارضة النبيلة هي التي تقدر طبيعة المرحلة الحرجة، وتقدم الحلول العملية لتجاوز أزماتها، ولا تقف عند الأمور الصغيرة، ومحاولات تسجيل النقاط في مرمى النظام فقط، والذي عليه أيضا أن يستوعب دروس تجاهل الرأي العام.

 

 

صحيفة العرب:محمد أبو الفضل