لم تعد أزمة ما يسمى المقاومة في لبنان، أي ميليشيا حزب الله، أزمة سياسية أو عسكرية أو أمنية في سوريا. هي تحمل المكونات هذه بلا شك، لكن الأزمة الأعمق التي تواجه الحزب هي من النوع الأخلاقي العميق الذي ينخر مشروعيته ووجوده.

أيًا تكن ادعاءات تدخله في سوريا، والمحاولات الحثيثة للدعاية التعبوية التي تضع دور الحزب في دائرة حماية المقاومة ومقاتلة إسرائيل، يتضح أكثر فأكثر أن المقاومة تهدر دماء أبنائها دفاعًا عن نظام قاتل وسارق. فمن يميت الفتية الشيعة الآتين من جنوب لبنان وبقاعه، لحمايته، هو نظام كان عرضة للمزيد من الانكشاف خلال الأسابيع القليلة الماضية عبر ثلاث وقائع.

في تحقيق تفصيلي لمجلة «نيويوركر» الأميركية، حول عمل «لجنة العدالة والمساءلة الدولية» التي أسسها محقق كندي في جرائم الحرب يدعى بيل ويلي، رواية مرعبة عن التعذيب والقتل الممنهج لعشرات الآلاف من السوريين تنفيذًا لسياسات أمنية سورية رسمية مكتوبة وافق عليها بشار الأسد، وتم تنسيقها بين وكالات أمنه الاستخباراتية. وقد نجحت اللجنة في الذهاب أبعد من التوثيق إلى وضع مذكرة قانونية تبلغ أربعمائة صفحة تربط بين الوحشية التي واجهها السوريون منذ 15 مارس (آذار) 2011 وسياسات النظام، وذلك بالاستناد إلى أكثر من ستمائة ألف وثيقة حكومية هربها إلى خارج سوريا عاملون مع اللجنة، ممن لعبوا أدوارًا في منشآت استخباراتية شديدة السرية. كما استندت اللجنة في عملها إلى حزمة مهمة من الوثائق هربها الشاب السوري عبد المجيد بركات الذي عمل كاتبًا في «الخلية المركزية السورية لإدارة الأزمة» التي شكلها بشار الأسد مع اندلاع الثورة، وكانت وظيفتها وضع خطط المواجهة والإشراف على تنفيذها. أهمية المصدرين، وثائق بركات والمستندات الستمائة ألف، أنهما لا يتركان أي مجال للشك في مسؤولية الأسد المباشرة عن الأعمال الوحشية التي شهدتها سوريا في سجونها ومستشفياتها ومراكز التحقيق، كما في تنسيق الهجمات المرعبة التي استهدفت المدنيين لإخضاع مناطقهم.

وتنقل المجلة الأميركية عن ستيفن راب الذي قاد فرق الادعاء في المحاكم الجنائية الدولية في رواندا وسيراليون، قبل أن يخدم لست سنوات سفيرًا للولايات المتحدة لقضايا جرائم الحرب، وصفه للوثائق وجهود لجنة العدالة بأنها «أغنى بكثير من أي شيء رأيته، وأي شيء قمت بالادعاء فيه في هذا المجال».

حتى الآن، لا تزال سوريا محمية من إحالة ملفها إلى محكمة الجنايات الدولية. وقد يمر وقت قبل أن تتحول هذه الوثائق إلى قضية إدانة محكمة لنظام الأسد. لكن حكمًا صدر في بيروت أخيرًا عن المحكمة العسكرية، شكل عمليًا حكمًا غير مباشر على نظام الأسد، من خلال إدانة مستشار الطاغية السوري، الوزير السابق ميشال سماحة. فبعد حكم هزيل سابق عليه، وإطلاق سراحه لفترة وجيزة، قضت محكمة التمييز العسكرية في لبنان بسجن سماحة 13 عامًا مع الأشغال الشاقة، بعدما أدانته بجرم نقل متفجرات من سوريا إلى لبنان، والتخطيط لتنفيذ تفجيرات. وقد اعترف سماحة أنه نقل المتفجرات بأمر من الرئيس السوري بشار الأسد وأحد أبرز قادته الأمنيين، اللواء علي المملوك، في حين كان قد تحدث بأريحية مطلقة خلال التحضير للمؤامرة عن معرفة «الرئيس وعلي» بالمخطط، غافلاً أنه يتم تصويره عبر عميل داخلي أوشى به، وأسقطه في قبضة العدالة.

تبدو التفاصيل الإجرامية لقضية سماحة باهتة حين تقارن بالبشاعات الإجرامية التي وثقتها «لجنة العدالة والمساءلة الدولية»، حول الجريمة الأسدية المنظمة في سوريا، لكنها بلا شك تقدم دليلاً قاطعًا على مستوى العقل الإجرامي لنظام الأسد.

ولأن القتل والجريمة المنظمة لا يمارسان للدفاع عن الإمساك بالسلطة حبًا بالسلطة، بل لما توفره السلطة من استحواذ على مقدرات وامتيازات، جاءت «أوراق بنما» لتفضح جانبًا آخر من نظام العصابة الذي يدير سوريا. في حالة رامي مخلوف، ابن خال الأسد، الذي ورد اسمه في فضيحة الملاذات الضريبية، لسنا أمام نموذج تهرب ضريبي كلاسيكي، بل أمام نهب منظم للاقتصاد السوري الذي يمسك مخلوف بستين في المائة من مجمل أنشطته، ويديرها لصالح بشار الأسد، ويهرب عائداتها إلى خارج سوريا.

ثلاث محطات ترسم صورة متكاملة عن القتل والنهب المنظم الذي يمارسه نظام العصابة الأسدية في سوريا (ولبنان)، بشكل غير مسبوق إلا في حالة ألمانيا النازية ربما! بل حتى في ألمانيا أدولف هتلر، كانت الجريمة ترتكب لصالح عقيدة أوسع من مصلحة شخص أو عائلة أو مجموعة أفراد، كما هي الحال في سوريا الأسد.

وهنا الامتحان الأخلاقي الأقسى الذي تواجهه كامل منظومة المقاومة، حزبًا وجمهورًا ونخبًا، لا سيما أن «العنصر الأخلاقي» هو عنصر شديد الحضور في خطاب المقاومة، وفي تقييم أدائها وأداء خصومها.

لم يعد خافيًا، أيًا تكن الاعتبارات المصلحية السياسية والاستراتيجية، أن منظومة المقاومة، بحدة وقوفها إلى جانب نظام الأسد، باتت في وحدة موضوعية مع النظام، وليس في صف حماته والمدافعين عنه.

وما يترتب من مسؤولية جرمية على الأسد ونظامه، يترتب مثله على حزب الله الذي لا يزال يدفع بمئات، وربما آلاف الشباب من اللبنانيين الشيعة، إلى حقول الموت، ويدفع ببلاد بكاملها إلى حدود الانهيار، دفاعًا عن الجريمة الأسدية المنظمة!