حين باشر الإتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين عمله على وثائق بنما، بعد أن استدعى للمهمة بداية نحو مئة صحفي من أرجاء العالم، لم يخطر له أن يستدعي لبنانياً إلى هذه المهمة، ولا أن يستدرج مؤسسة إعلامية لبنانية لشيء من الشراكة في العمل. هذه صفعة على وجوهنا جميعاً كصحفيين، ووصفها على هذا النحو لا يهدف إلى إدانة الإتحاد، انما للتأمل بحالنا وقد أصبحنا خارج طموحات العالم وخارج توقعاته.

وحتى الآن لا أثر يُذكر للبنانيين متهرّبين من الضرائب في وثائق بنما، وهذا أيضاً ليس مؤشّراً على صحة ولا على قوة الرادع أو انعدام الإغراء، إنما هو مؤشّر على موت، ذاك أن الهرب من الضرائب يُقدم عليه رأس مالٍ حيٍّ وساعٍ ومتحفّز، وإن انطوت الفعلة على شُبهة فساد وعلى تنصّل من المسؤولية الإجتماعية لرأس المال.

فما كشفته وثائق بنما أظهر أن الفضيحة غربية بالدرجة الأولى، ورؤوس الأموال المهرّبة إلى الجنة الضريبية البنمية إنّما هُرِّبت من اقتصادات حيّة، ومن مجتمعات فرضت على أغنيائها مسؤوليات لا يبدو أن أغنياءنا يشعرون باقترابها من رؤوس أموالهم. والأرجح أن ذلك هو ما يُفسر انعدام أثر لبنانيين بين من وردت أسماءهم في الوثائق.

لكننا أمام 11 مليون وثيقة، وربما كان من التسرّع أنّ نستنتج أن لا أثر لأيادٍ لبنانية بين هذه الوثائق. الصحافة الغربية قالت إنّها عملت في بحثها في الوثائق على مستويين، الأول النجوم الكبار من قادة العالم ممن وصلت إليهم أيادي الصحفيين المتقصين، والثاني هو ما أوكل إلى الصحف المحلية في الدول المختلفة، فتقصّت وسائل الإعلام المحلية أسماء مواطنيها وسياسييها ونجومها المحليين.

لا شيء يُغري الصحافة العالمية في سياسيي لبنان وفي أغنيائه، لكي تتولى الأخيرة البحث عنهم في الوثائق. أما الصحافة المحلية فيحول دون قيامها بهذه المهمة عاملان، الأول هو أنها تعيش حال شلل وانهيارٍ انعكست تراجعاً هائلاً في الخبرات وفي الدوافع للقيام بهذه المهمة، والثاني هو أن الانقسام المعيق للوظيفة الأصلية لهذا الإعلام يجعل من القيام بمهمة البحث جزءاً من مشهد الإنقسام.

إعلام "14 آذار" سيبحث في الوثائق، في حال أتيح البحث فيها، على ما يدين حزب الله، وسيغضّ طرفاً، إذا ما عثر أثناء بحثه، عن وثائق تكشف سياسيين وقادة واقتصاديين قريبين منه، والأمر نفسه سيمارسه إعلام "8 آذار" معكوساً.

جرى ما يُشبه ذلك مع وثائق ويكيليكس، فشهدنا تراشقاً بالوثائق بين الإعلامين، وكانت خدمة القارىء وإيصال الحقيقة إليه آخر هموم طرفي الإعلام.

إعلام الممانعة اعتقد بداية أن وثائق ويكيليكس ستكون طريقاً لتدمير الخصوم، فراح يُمعن في البحث إلى أن اكتشف أن ما قاله الحلفاء في "8 آذار" للسفير الأميركي عن حزب الله كان أفدح وأخطر ممّا قاله الخصوم. نجيب ميقاتي قال إن حزب الله ورم في الجسم اللبناني، ومحمد جواد خليفة قال ما هو أفظع من ذلك وابراهيم كنعان أيضاً. وكان على حزب الله أن يُقفل الملف قبل أن ينفجر التحالف بين يديه. وكان صمت الحزب عن وشاية الحلفاء به مخيفاً، ذاك أنه وجه آخر للعلاقة بين الحزب وبين حلفائه، فهو استثمر في الوشاية لمزيد من الإخضاع، بينما شعر الواشون من الحلفاء بوطأة صمت الحزب على وضاعتهم، فردوا على ذلك بمزيد من الطاعة.

إعلام "14 آذار" كان مذعوراً في البداية، ذاك أن محاضر اجتماعات السفارة الأميركية في بيروت قد تكشف تبعيته وزبائنيته، لكنّه عاد والتقط أنفاسه بعد ما كُشف من فظائع زوار السفارة من جماعة "8 آذار"، وهو إذ بادر في الهجوم في حينها، أوقعه فقر خياله في معضلة الحذف والانتقاء، فانخفضت مصداقية الوثائق التي نشرها، وصارت ويكيليكس اللبنانية أقرب إلى سجال الشقيقين جوزيف وسيمون أبو فاضل، بدل أن تكون مرآة كاشفة للعلاقات الزبائنية الرثة التي تربط القوى السياسية المنقسمة بعضها ببعض، والتي تربطها أيضاً بالسفارة الأميركية.

اليوم أيضاً لبنان قد يتولى "هرغلة" وثائق بنما، وتفادياً لذلك يجب أن تُكف يد الإعلام اللبناني عنها.  

    المصدر :ناو