من أي باب يمكن أن تدخل إلى عقول المتعصبين مذهبيا , إذا كان التعصب قد وصل إلى النخبة المثقفة التي يُراهن عليها في الاعتدال المطلوب اليوم في زمن التطرف , وإذا أعمى التعصب بصيرة العالم , وجمّد عقل المثقف , وقُلبت الحقائق العلمية عند هذه النخبة وتسلل الادعاء بالحق المطلق إلى ساحة المثقفين  , فأيّ علم بقي وأي منهج عقلي بقي , وعلى مَن تراهن بعد هذا التهافت الفكري الذي وصل إلى مرحلة قبول الخطأ عند الآخر فقط , أما عنده فكل شيء صحيح ومصحح , ولا يعتريه أي شائبة , وبالتالي لا داعي للنقد والمراجعة , وكأن الناس وصلت إلى مرحلة عدم رؤية ظلها .

وهل هناك تهافت فكري وعقلي أكثر من ان لا ترى أن المشكلة التي يعاني منها مجتمعنا الشرقي الذي يحكمه الدين بكل جوانبه , هي في الموروث الديني الذي تعتمد عليه كل الحركات الاسلامية من اجل تبرير ما تفعل , هذه الحركات الاسلامية التي وضعت نصب أعينها السلطة , وسعت إليها بكل الوسائل , تحت شعار ميكيافيلي " الغاية تبرر الوسيلة " .

قد تجاوزت الحركات الاسلامية السلطوية كل الثوابت الدينية والاخلاقية من اجل الوصول إلى أهدافها , وهذا الامر أصبح من البديهيات السلوكية التي لا يمكن أن يناقش فيها , إلا مَن أعمى التعصب كل مدركاته الحسية والعقلية , فلا يمكن ان يدرك حقائق الامور .

لم يتحرك الاسلام السياسي من فراغ , ولم ينزل من السماء , بل تحرك في ساحة وعلى أرضية جاهزة لقبول كل طروحاته الدينية , وليس من السهل أن ينجح بهذه الطريقة لولا وجود هذه المقبولية الفكرية المُنجزة في نص ديني أسبغ عليه صفة المقدس .

ويأتيك مَن يقول لك ان التراث الديني لا مشكلة فيه , لأنه قد غُربل ونقّح وتعرّض للنقد الذاتي منذ زمن , وبالتالي فهو لا يغطي ولا يبرر افعال وسلوكيات هذه الحركات التكفيرية والاصولية والسلطوية التي تدعي انها تتحرّك باسم السماء .

الازمة الاكثر خطرا على مجتمعاتنا وعلى تراثنا الديني وعلى مستقبل البلاد عامة , هي رضوخ النخبة المثقفة الدال على تعصب مذهبي , وإستسلامها للسائد الفكري , وهذا يدعم حراس التراث الذين يمنعون غربلته , ويؤسسون لعلاقة تعبدية مع كل موروث ديني , ويرفضون أي علاقة نقدية مع التراث الديني بحجة أنه قد تعرض للنقد والتصحيح وبالتالي كل ما فيه يمكن ان يؤسس عليه .

إذا كان كذلك , فمن أين يستمد الارهاب الاسلامي مبرراته , ولماذا لم تعلن المرجعيات الدينية صراحة بأن التراث والموروث الديني لا يحمل في طياته نصوصا وأدلة على تشريع سلوكيات الحركات الاصولية الدينية التي تقوم بكل هذا الكم الهائل من القتل والاجرام والارهاب وإراقة الدماء ...و ...و إلى آخره .