عندما أعلن الرئيس الروسي بوتين قراره بالإنسحاب الجزئي من سوريا توقع كثر أن هذا الأمر جدي ودفعة حقيقية للتشجيع على الحل السياسي في سوريا وهو بالفعل كان كذلك ولكن غاب عن كثر أن الإنسحاب كان جزئي وليس كلي. فالإنسحاب لم يكن كما برر محور الممانعة بأنه تخفيض للفائض الإستراتيجي العسكري الروسي الذي تم بعد واقعة إسقاط الطائرة الروسية لأن هذا الجهد كان متوفرا منذ اليوم الأول للحملة الروسية وما تم جلبه بعد واقعة إسقاط المقاتلة الروسية هي أنظمة دفاع روسية لا زالت تعمل حتى الآن.

وهو أيضا لم يكن كما توقعه المحور الآخر في المنطقة والذي تحدث عن إنسحاب روسي كلي من المشهد السوري بدليل أن تدمر تحررت من أيادي داعش بعد الإعلان الروسي بالإنسحاب. ما حصل لا يعني أن بوتين كان يكذب أو يرمي إلى خداع العالم أجمع،  فروسيا تدرك أن هناك خطوط حمر أميركية لا يمكن تجاوزها ولا اللعب بها بل جل ما في الأمر أن روسيا وأميركا  توصلتا إلى تفاهم مشترك كان عرابه كل من كيري ولافروف وتوج باللقاء الأخير الذي حصل في موسكو بينهما.

كان القرار الروسي إعلانا عن بدء جدي للحملة الروسية لمحاربة داعش فعليا والفصائل المصنفة إرهابية لا المعارضة المعتدلة ولكن هذه المرة بأسلوب آخر وتكتيك آخر يرسم على وقع اللحن الأميركي الذي بدأ عزفه بتقديم دعم عسكري لوجستي لقوات سوريا الديمقراطية وطرد داعش من الشمال الشرقي الكردي لسوريا ووصلوا لحدود دولة الخلافة المزعومة في ريف الرقة أضف أن أميركا ساهمت في تأمين الحملة العسكرية لصد داعش عن كوباني وطردها منها.

فهذا التوجه الأميركي لم يكن مقتصرا على سوريا بل حقق إنجازات واسعة في العراق توج بتحرير الرمادي والآن جاري العمل على تحرير نينوى. وكجردة حساب للعمليات العسكرية لكل من روسيا وأميركا يتضح أن الأميركيين إستطاعوا تحقيق ضربات مهمة لداعش وتحرير أراضي واسعة وصلت حدود 40% كما صرح أوباما بينما الروس صبوا جام غضبهم على مناطق سيطرة المعارضة المعتدلة ولم يوجهوا ضربات حقيقية لداعش سوى ما حصل بتدمر.

كانت تدمر نقطة الإنطلاقة الجديدة للحملة الروسية على الإرهاب بالطريقة التي جعلت أميركا والأمم المتحدة ترحب بتحرير المدينة. وبينما كانت تجري عملية تدمر والتي بالمناسبة كان يجهز لها قبيل الإعلان الروسي للإنسحاب الجزئي كان هناك حملة لتحرير نينوى بتغطية جوية أميركية.

فعامل الوقت بين الحملتين ليس صدفة بل يعكس نية لتشتيت الجهد العسكري لداعش ونية لشيء آخر أعلنته موسكو بالأمس بأنها تبحث مع واشنطن بأمور معينة للتعاون على تحرير الرقة. هذا الإعلان جاء بعد زيارة كيري لموسكو وإجتماعه ببوتين.وفي السياق نفسه،نوه البنتاغون بالجيش الروسي وأدائه ما يعكس تقارب في وجهات النظر بين الطرفين وتعاون وشيك لجهد مشترك لمحاربة الإرهاب الحقيقي في سوريا.

وقد برز تصريح مفاجىء من مندوب سوريا في الأمم المتحدة الجعفري يرحب بمشاركة أميركا لمحاربة الإرهاب وهو يناقض ما كان يصرح به رموز من  النظام بأوقات سابقة بإتهام أميركا بدعم هذا الإرهاب.فالواضح أن الروس ومن خلفهم إيران والنظام السوري ولو لم يعلنوها بشكل واضح باتوا مقتنعين بالرؤية الأميركية لمحاربة الإرهاب في سوريا.

فهذا التعاون سيوحد جهود الجميع من طرفي المعارضة والنظام لمواجهة داعش والإرهاب وسيسهل عملية الحل السياسي في سوريا لكن لا يعني هذا قبولا أميركيا ببقاء الأسد في السلطة كما أشار جون إرنست الناطق بإسم البيض الأبيض الذي رفض وجود الأسد في حكومة مشتركة.

وأفاد ديبلوماسي في الأمم المتحدة أن كيري أبلغ عدد من الدول العربية عن تفاهم روسي وأميركي على ترحيل الأسد إلى دولة أخرى خارج سوريا ولكن لم يحددا إلى الآن توقيت هذا الترحيل في تقاطع مع ما أعلن من موسكو منذ يومين أن واشنطن تفهمت الرغبة الروسية عن تأجيل الحديث  بمصير الأسد لوقت آخر.

فمبدأ الترحيل أقر لكن التوقيت بحاجة إلى دراسة أكثر مرتبطة بمفاعيل العملية الإنتقالية ومراحلها المعنونة بتعاون روسي أميركي لمحاربة الإرهاب. كل المعطيات تشير إلى أحداث مصيرية ستشهدها المنطقة تخط بالنار والدم على وقع رقصات روسية وموسيقى أميركية ترغب بحل الملف السوري قبل إنتهاء ولاية أوباما.