يُلاحَظ في الآونة الأخيرة حدوث تعدّيات عسكرية إسرائيلية ممنهجة على طول الخط الأزرق في جنوب لبنان، وخصوصاً في «مناطق التحفّظ» الواقعة على هذا الخط، والمقصود بها المناطق التي اختلف على تصنيفها الجانبان اللبناني والإسرائيلي خلال تنفيذ عملية رسم الخط الأزرق المسمّى بخط الانسحاب الإسرائيلي عام 2006، حيث اعتبرتها الدولة اللبنانية ولا تزال مناطقَ لبنانية، فيما اعتبرتها إسرائيل مناطق تقع ضمن أراضيها، وأقرَّ لها بذلك القرار 1701. وتبلغ مساحة «مناطق التحفّظ»، بحسب المفهوم اللبناني، 13 نقطة تمتدّ على مسافة 114 كلم، التي هي طول الخط الأزرق الممتدّ من منطقة شبعا حتى الناقورة. وفقَ معلومات «الجمهورية»، أنّ هذه النقاط (مناطق التحفّظ) تشهد منذ نحو أسابيع تعدّيات إسرائيلية خطرة تهدف إلى تغيير الجيش الإسرائيلي لواقعها الطبوغرافي، وذلك تحت مبرَّر الضرورات الأمنيّة.

وحتى الآن يمكن رصد أبرز هذه التعدّيات بالتالي:

- في العديسة، رفعَ الإسرائليون جدراناً إسمنتية ضمن منطقة التحفّظ الواقعة في تلك المنطقة، (ما يعني أنّ إسرائيل تستخدم أراضي لبنانية وفقَ مفهوم الدولة اللبنانية لحدود 1701 لتبني عليها جدار فصل بين أراضٍ لبنانية وأراضٍ فلسطينية محتلة تقابلها).

- في جبل البيّاضة، وهو أحد نقاط التحفّظ الـ 13، ويقع في منطقة الناقورة، تقوم القوات الإسرائيلية منذ فترة بعمليات «جرف صخري»، وذلك بهدف تحويله من جبل لبناني إلى منطقة عوائق جغرافية أمنية إسرائيلية.

الهدف المباشر لهذه الإجراءات هو جعلُ أيّ عملية تسَلّل عبرَه من لبنان إلى داخل الأراضي الفلسطينية، أمراً صعباً. ومن مفهوم عسكري فإنّ عمليات الجرف الصخري في جبل البيّاضة تُمكّن إسرائيل السيطرة عليه بالنار من خلال جعل عمليات تسلّل مقاومي «حزب الله» عبرَه بحاجة لوقتٍ غير قصير، بحيث يُصبح نادراً أن تقومَ مجموعة بالتسلّل من دون أن تكتشفَها نقاط المراقبة الإسرائيلية.

في المحصّلة، فإنّ جبل البيّاضة اللبناني، وفقَ قراءة بيروت لطبوغرافيا الخط الأزرق من جهة، والمعتبَر من جهة ثانية «أرضاً إسرائيلية» وفقَ التفسير الدولي والإسرائيلي للقرار 1701، يتمّ تغيير جغرافيته ليصبح عملياً «وكأمرٍ واقع خطّاً دفاعياً حدودياً إسرائيلياً».

وتجدر الإشارة إلى أنّه وضمن سياق التعدّيات الاسرائيلية القائمة راهناً على مناطق التحفّظ على الخط الأزرق، حصل تعدٍّ مشابه أخيراً تمثّلَ في إتلاف الجيش الإسرائيلي مساحة 500 متر مربّع مزروعة بأشجار الزيتون في منطقة البياضة في مزارع شبعا، وهي المنطقة عينها التي كان فجَّرَ فيها «حزب الله» عبوةً بموكب عسكري إسرائيلي ردّاً على قصف إسرائيل موكباً إيرانياً مشترَكاً مع الحزب قرب القنيطرة وأدّى حينها إلى سقوط عدد من عناصر الحزب بينهم نجلُ أبرز قيادييه عماد مغنية.

ما هي أهداف إسرائيل من تعدّياتها الراهنة على مناطق التحفّظ اللبنانية؟

مصادر مختصة ومتابعة لهذا الملف تَحصرها بهدفين اثنين أساسيَين:

الأوّل، وهو استراتيجي وبعيد المدى، يرمي إلى إجراء تغييرات جغرافية في هذه المناطق تؤسّس لجعلِ إسرائيل تطالب لاحقاً باعتبارها مناطقَ تقع داخل أراضي فلسطين المحتلة (أي إسرائيلية)، وتمثّل خطَ حدودها القانونية مع لبنان.

ويريد هذا الهدف بحسب مصدر قانوني «تحقيقَ رغبة الدولة العبرية في رسم الحدود الدولية مع الدولة اللبنانية حينما يَحين موعد التسويات النهائية في المنطقة انطلاقاً من الخط الأزرق، على رغم أنّ جوهر القرار القانوني للقرار 1701 يعتبره خط انسحاب».

الثاني، حماية المناطق الشمالية في فلسطين المحتلة من إمكان نجاح المقاومة في التسلل إليها، خصوصاً بعد نجاح الأخيرة في زرع عبوةٍ داخل مزراع شبعا لمرّتين خلال أشهر قليلة.

والملاحَظ أنّ إسرائيل تقيم خطَّ الموانع العسكرية فوق أراضٍ لبنانية، ولكنّها من وجهة نظر إسرائيل والقرار 1701 تُعتبَر مناطق تقع وراء خط الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، ما يؤشّر إلى أنّ تل أبيب تُخطّط لإبقاء حركة المواجهة بينها وبين «حزب الله» داخل الأراضي اللبنالنية، في حال وقعَت حرب جديدة. وأيضاً لجعلِ مناطق التحفّظ تحفل بأمر واقع عسكري له صفة بأنّه قانونياً يُلبّي احتياجات دفاع إسرائيل عن أمنها في المنطقة الشمالية المهدّدة من «حزب الله».

وكان لافتاً في هذا المجال أنّ الخارجية الإسرائيلية سرّبَت أخيراً أنّها تعتزم تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة للاحتجاج على تهديد «حزب الله» بلسان أمينه العام السيّد حسن نصرالله بالدخول عسكرياً إلى منطقة الجليل.

ووفقَ تفسيرات قانونية فإنّ هدف تل أبيب من هذا الاحتجاج هو تقديم غطاء قانوني دولي لتعدّياتها الراهنة على مناطق التحفّظ، وإبرازها على أنّها إجراءات عسكرية وقائية دفاعية تتمّ فوق أراضٍ مسموح لإسرائيل الحركة الدفاعية فيها وفقَ القرار 1701، وأنّ هدفها الاستراتيجي تأمين حماية الجليل من أيّ تسلل صغير أو كبير لاحقاً لـ»حزب الله» إليه.

وعليه فإنّ إسرائيل تحاول كسبَ أمرين في وقت واحد: شرعَنة سيادتها العسكرية وبدرجة أكثر الأمنية على مناطق التحفّظ على الخط الأزرق.
وإنشاء حواجز وحصون عسكرية، وفي الأساس إجراء تغييرات طوبوغرافية أمنية في» 13 نقطة تحفّظ «على طول الخط الأزرق بحجّة أنّها تحتاجها لمنع أيّ تسَلّل لـ»حزب الله» إلى شمال إسرائيل.

وضمن هذا الهدف، لا يُستبعد مع الوقت، بناءً لسوابق إسرائيلية مماثلة، أن تعلن إسرائيل نقاط التحفّظ الـ 13 نوعاً من خط دفاع إسرائيلي فوق الأراضي اللبنانية، وتراهن لاحقاً على إطلاق تسمية عليه (كما أطلقت سابقاً تسميات على «خطوط دفاعية» على حدودها مع دول عربية كمصر وسوريا) للإشارة إلى أنّ مناطق التحفّظ هي منطقة حيوية أمنية لها، يجب إعادة التفاوض حولها لاحقاً من أجل انسحابها منها، وذلك بموجب تسوية شاملة مع لبنان!

أين الدولة اللبنانية من مِثل هذه الأخطار التي تعمد إسرائيل حالياً إلى البدء في تجسيد وقائعها على الأرض على طول الخط الأزرق؟

يجيب مصدر متابع أنّ الآونة الأخيرة شهدت حراكاً عسكرياً إسرائيلياً خطراً على طول الخط الأزرق، اتّسَم بأنه يرمي إلى تغيّرات بعيدة الأمد جغرافياً وسياسياً في مناطق التحفّظ، ومع ذلك يلاحظ أنّ الدولة اللبنانية في المقابل لا تثير هذا الموضوع، الأمر الذي يشجّع إسرائيل على التمادي لنقلِ تعدّياتها إلى مناطق تحفّظ أخرى.

قبل نحو عامين ونصف العام، خاضَ لبنان مع إسرائيل تجربة مشابهة، وذلك عندما حصلت هجمة إسرائيلية مماثلة هدفَت إلى فرض تغييرات من نوع «أمر واقع» داخل مناطق التحفّظ وإجبار بيروت على التعامل معها واقعياً وعملياً بوصفها «أراضيَ تتمتّع بحيوية أمنية إسرائيلية دفاعية».

وبلغَت المواجهة حينها أوجَها حينما أصرّت تل أبيب على رفض قيام الجانب اللبناني بتنظيف نهر الوزاني واشترطت للقبول بذلك موافقة بيروت على ترسيم الخط الأزرق داخل النهر. وكان كافياً تقريراً بأخطار هذا الأمر رفعُه مديرَ مخابرات الجيش في الجنوب العميد علي شحرور لقيادته، لتجعل الرئيس نبيه برّي حينها يُقرّر أنّه على لبنان الردّ بأقصى قوّة على هذا التوجّه الإسرائيلي لأنه يُخفي مطالبَ استراتيجية على صلة برغبتها في جعلِ نقاط التحفّظ خطاً دفاعياً حدودياً إسرائيلياً معترَفاً به دولياً لاحقاً، وليس فقط خط انسحاب كما أقرّ بذلك خطأ القرار 1701.

وطالبَ برّي حينها بأن يُهدّد لبنان بوقفِ مشاركته في اللجنة الثلاثية التي تعقد اجتماعاتها دورياً في الناقورة، والتي تضمّ ممثلين عن الجيشين اللبناني والإسرائيلي والأمم المتّحدة، وذلك احتجاجاً على أنّ قوّة «اليونيفيل» لا تفعل شيئاً لوقف تعدّيات إسرائيل في منطقة القرار 1701.

وصلت تراجيع طلب برّي حينها إلى الأمم المتحدة التي تدخّلت لفضّ هذه المشكلة وفقاً لنظرة لبنان. واليوم يُثار سؤال عن تقصير الحكومة اللبنانية تجاه عدم إثارتها لقضية التعدّيات الإسرائيلية القائمة حاليّاً داخل عدد من مناطق التحفّظ على الخط الأزرق، علماً أنّ ما يَحدث في تلك المنطقة يؤسّس لإرساء حقائق عدوانية سيَصعب على لبنان لاحقاً إزالتها وستَجعله يخسر فعلياً جزءاً من أراضيه لصالح إسرائيل، خصوصاً في ظلّ أنّ مناطق التحفّظ هذه هي أراضٍ متنازَع عليها أقلّه وفقَ مضمون القرار 1701.