تصدّر خبر قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالانسحاب من سوريا عناوين الأخبار حول العالم، وفي تقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، قالت إن التصريحات الرسمية منذ البداية أن العملية ستدوم فترة محدودة وأنه لن يكون هناك انتشار عسكري دائم.

كما قالت روسيا إن الهدف من الحملة ليس دعم نظام الرئيس بشار الأسد بل حماية سيادة الدولة، وأن المستقبل يقرره الشعب السوري بنفسه عبر المحادثات السياسية. إن ما قالوه آنذاك هو الذي يحصل الآن فعلاً.

إذاً لماذا الآن؟

بنظرة إلى الوراء تعرف السبب: النظام السوري كان لا بد من دعمه لأن من وجهة نظر روسيا يمكن وقف انتشار الإسلام الراديكالي بطريقة واحدة فقط هي تقوية الدولة، والدولة السورية معترف بها عالمياً فقدمت لها موسكو الدعم.

قصفت الطائرات الروسية أعداءها – من تنظيم "داعش" وغيرها من المجموعات المسلحة- لكن المهمة طالت أكثر من المخطط له لأن الجيش السوري لم يكن على قدر الجاهزية القتالية المتوقعة. في النهاية تم قلب الوضع، ما سمح لروسيا أن تقلل وجودها ومسؤوليتها مستقبلاً.

ماذا نتج؟

أنقذ النظام السوري من الانهيار وزادت المساحة التي يسيطر عليها، كما أن التغير في ميزان القوى على الأرض بعث الأمل بإجراء محادثات حقيقية، فالمعروف أن بعض الأحزاب لا تُقبل جدياً على المفاوضات والاتفاقات السياسية إلا إذا يئست من نصر عسكري ما عاد ممكناً.

ما عاد في وسع المعارضة التعويل على آمال نصر عسكري، كما لا يمكن للنظام الرحيل بعد مغادرة الروس، سوريا بحاجة إلى إصلاحات عميقة لكي تسترد السيادة الحقيقية، وقلةٌ هم في موسكو من يؤمنون أن النظام الحالي سيطول أمده دون تغيير، إن في الانسحاب الروسي إِشارة ورسالة إلى السلطات السورية بأن روسيا لن تقوم بأداء عملهم نيابة عنهم.

افترضت المقاربة الروسية أن السبب في أي دمار يحل بالهيكل الإداري هو الإطاحة بالنظام، وأن الفوضى ستلي ذلك. وفي الوقت ذاته نجحت المساعي الروسية في سوريا وجهود التحالف الأميركي في العراق بوقف انتشار داعش. لكن المزيد مطلوب لضمان هزيمتها، فالقصف الجوي لا يكفي، بل ينبغي أن تليه حملة أرضية وجود مشتركة بين النظام والمعارضة سوياً، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عبر عملية سياسية.

هل يبقى الأسد واقفاً دون روسيا؟

لن تغادر روسيا البلاد تماماً، فقد رأينا مثالين على ذلك مؤخراً؛ الأول كان عندما انسحبت أميركا من العراق كلياً فانهارت البلاد وظهرت داعش، والثاني كان عندما سحبت أميركا معظم جنودها من أفغانستان لكن تركت خلفها وجوداً عسكرياً جدياً حافظ على تماسك البلاد رغم كل مشاكلها.

على روسيا أن تبقي بنيتها الحربية التحتية وفرقة عسكرية في سوريا لضمان عدم انهيار النظام، فموسكو تلقنت دروسها وحفظتها.

ما النتائج السياسية؟

أثبتت روسيا نفسها عالمياً لاعبة كبرى وقائدة عمليات ذات نفوذ واسع، أما أجندة الحوار الروسي مع الغرب فتوسعت، حيث قبل عملية سوريا كانت الأجندة منصبة على عملية السلام في أوكرانيا، والتي هي قضية هامشية بالمقارنة مع الشرق الأوسط، من السذاجة أن تتوقع روسيا صفقة مثل "أوكرانيا مقابل سوريا"، لكن ما لا شك فيه أن روسيا الآن باتت يحسب لها حساب أكثر مما كان قبل 6 أشهر، وهذا سيؤثر في المحادثات الأوكرانية.

هل هناك مستقبل لمحادثات جنيف؟ أمرٌ إيجابي أن تبعد روسيا نفسها عن الأسد قليلاً فيما لا تنفض يدها منه. سوريا ستتغير وموسكو سيمكنها التفاعل ليس مع نظام الأسد فحسب بل كذلك مع طيف أوسع من اللاعبين. فإن زدنا على هذا جهوداً دبلوماسية مكثفة بين موسكو وواشنطن والرياض، سنشهد بذلك فرصة حقيقية للتسوية.

 

 

صحيفة فايننشال تايمز البريطانية