صادق النابلسي I- جدل المواجهة

سنتان على (الربيع العـربي الأغر!) وكل شيء يزداد سوءاً. وكأنّ المأمـول الذي كنا ننتظره لا الحرية بل جحـيم الجاهلية. أخطر من الانهـيار هذا الذي يحـصل، إنـه الوهم الأكبر، وليس شكلاً آخر من أشكال الهزيمة. فنحن على مدار السنوات الماضـية نتجرع هزائم ارتضيناها لأنفسنا لنثبت للعالم اننا نستحق أن نعيش مهزومين اجتماعاً وثقافةً وأخلاقاً!
ليس هذا تجريحاً بالذات، بعدما غدا الجاهل في هذه الأمة عالماً، والأمي مشـترعاً والعميل بطلاً والانتهازي راسماً لدروب المستقبل و«السلفاني» فاتحاً لعصر الأنوار العربي والإسلامي. كانت الحياة العربية من ذي قبل ساقطة بالاستبداد، واليوم هي ساقطة بـ«السلفانية». الاستبداد كان يسوغ كتم الانفاس، و«السلفانية» تسوغ قطع الرقاب. والناس يتأرجحون بين حظين عاثرين لا أثر فيهما لرسولية ولا حرية. وما زالت الأمة لم تتعرف على نفسها بعد، سجينة في شقاء سديمي، ضحلة لا تصنع القضايا العظيمة ولا الفكر العظيم ولا تتبنى القيم العظيمة. تندفع نحو الانتحار والموت ولا تسعى للشهادة والحياة. تحكم على نفسها بالتمزّق والتكسّر والتجوّف واليباس، وانها ليست على مستوى الحرية ولا تستأهلها ولا تستحقها. والإنسان فيها لم يلتقِ بذاته. ما زال بعيداً عنها بُعد المشرقين، يَعصُب عقله بعصابات مذهبية وطائفية وقبلية، يكبر لكنه لا يكتمل، تغلبه الطباع والانفعالات الهوجاء، وإذا انتصب قام على غير رجليه، وإذا استفاق من سباته خرج على الناس شاهراً سيفه وكأنّه يحيا للماضي ومن أجل الماضي لا المستقبل!
ما سُمي بالثورات العربية هو في الحقيقة انقلابات جماهيرية. حالها حال الانقلابات العسكرية التي تضع لها هدفاً معروفاً وهو الوصول إلى السلطة. والانقلابات الجماهيرية تحمل الهـدف نفـسه، وإن كان من اخـتلاف، فهو في الـزي والعـدد ، أما الاتجـاه فواحـد. حـقاً، ما الفـرق بين قوة عـسكرية وقوة جـماعية طالما أنّ كليهما يتوسـل العـنف والقتل ليثـبت وجوده وليـقيم حكمه وحـاكميته!
لم يكن ما جرى بلا وعي. كان مفتعلاً ومدروساً بعناية، وحده الإنسان العربي كان بلا وعي. كان مستسلماً للعطالة والبلادة كالعادة. ظن لوهلة أنه يصنع قدره، وكيف يصنع قدره من هو خارج حركة التاريخ والزمن. ولن نرمي المسؤولية كاملة على المستعمر رغم اننا لا نستطيع أن ننفي دوره وأن نتجاهل شره. ولكن حينَ يقّدم البعض من أعراب اليوم أنفسهم قديسين وأولياء ومن نسل الصحابة لن يكون هناك مجال للرؤيا والبحث والتأمل والتساؤل الحر، فضلاً عن الحوار بمختلف مستوياته الذي يشكل تحدّياً حقيقياً أمام إفرازات (الثورات) ومقاييسها التي ذوّبت كل القضايا الفكرية والاجتماعية والإنسانية في إطار العسكرة وعنف الفتاوى وفتاوى العنف . كل جماعة تقدم نفسها على أنها معصومة عن الأخطاء ولا أحد يحمل تبعة الدم. الدم فعل الآخرين والشياطين الذين يغوصون ويعملون عملاً تأباه سلفية الألفية الثالثة!
من ينظر إلى المشهد المصري على سبيل المثال سيقف عند حقيقة مرعبة. كانت (الثورة) إيذاناً بمزيد من الفوضى والضياع والانقسامات الطولية والعرضية. وهي شكّلت أفضل ذريعة للخروج عن الأصول والقيم والانغماس في وحول الغرائزية.
لا حوار إلا بالسباب والشتـيمة، (الثورة) لم تكن عند كثيرين فعل تحرير وحريـةّ بالكامل بل فعل صراخ في كل الاتجاهات، ورفض كل طرف للآخر بصورة قاسية. الكل يعمل على تثبيت التناقضات وتعميق الخلافات . التمايز والتمييز في الثقافة والدين والسياسـة يجـعلان سفينة المصريين تغرق بمن فيها، ولكن الكل ماضٍ ليكتشف الغرق بحيث تتشارك القبائل المصرية في صنعه من منطلق العصمة وفي سبيل تحقيق كل جماعة ما تزعم أنه الحق.
أخطر ما يحصل اليوم هو في تراكم العـمى على أنواعه. الجهلُ أيضاً على حـاله قبل سقوط النظام السابق وبعده. لم تتغير نسبه بل على العكس تهيأت الفرصـة أكثر ليـعبّر عن نفسه بأشكال شبيهة حد التطابق مع ما نقلته كتب النزاعات القبلية القديمة، حتى أصبح الجميع أقل تسامحاً، أقل أخوّة، أقل تحاوراً ، اللهم إلا الجدل الذي يفتح الطريق أمام المواجهة!
في مصر، المصريون يعيشون صيرورة فريدة . إنها صيرورة القطيعة . لا شراكة إنسـانية تفـتح أمام المصري دروب التقدم والخلق والإبداع، بل ديماغوجية التصادم. النـظام المدني صار اكثر صعوبة. المتدين يريد أن يقدم أعمالاً تثبت تدينه والتـزامه. والعلـماني يسـعى لإثبات أولويات يراها أكثر تمّاساً مع الواقع والعصر تتعلق بالحريات والتعددية وتحديات الاختلاف، ويخضع ذلك كله لأفكار مسبقة جاهزة تقف عند نتيجتين متعاكستين: الاولى تحكم بأن العلمـانيين يريدون إفراغ الدين من محتواه الاجتماعي والسياسي، والثانية تحكم بأن الإسلاميين قد مسخوا الدين ومذهبوه وجعلوه مطيّة واداة لأهداف غير إنسانية.

II- الجهاد للجهاد

من يقف على الأبعاد الكاملة للجهاد في الإسلام وعلى فلسفته وغاياته يدرك أنّ ما يجري اليوم من جهاد في سوريا باسم الإسلام هو شيء آخر له جسد الجهاد إلاّ أن روحه روح جاهلـية. التـظاهر بأنّه إيّاه لا يغيـّر من الواقـع السوداوي بوصة واحدة. كل الأفعـال الشـنيعة والجرائم التي تُرتكب مغطاة بأيديولوجيا دينية نجد من يبررها فقهياً باستناد أصحابها إلى مقاييس ومعايير خاصة خارجة كلياً عن أصـول الإسلام المحـكمة وقـوانين التفكير الاجتهادي لدى علماء المسلمين. وهذا يؤكد أنّ ما يصدر من فتاوى وما يُعاين من ظواهر يأتي في سياق حـالة الانحطاط الفكري الذي تعيشه الأمة على مختلف المستويات. ولا شك أنّ الأزمة الكلامية هي الأساس في كل هذه الفوضـى التي تعبث بالإسلام وبعقول وأفعال المسلمين، وكما هو معـلوم أنّ المناهـج المطـروحة في علـم الكـلام لها تأثير كبير في إيجاد التقدم أو الانحـطاط. ولو كانت المناهج صحيحة سلـيمة لكـان المحتوم أن توصل المسلـمين إلى الحـرية والعـزة والاسـتقرار والاقتـدار العلمي والاخـلاقي والحضاري. إلا أنّ واقع الحال لا يعكس صحة وسلامة الكثير من المناهج المعروضة أمام المسلمين لا سـيما ما يـرتبط مـنها بالجهاد أصـلاً وثقافة وممـارسة. لذلك فما هو معروض أمامنا في سوريا، هو نسخة مشوّهـة عن الجـهاد إلى أبعد الحـدود، يقوم على العنف والقـتل والدمـوية والتـطهير العرقي والمحاكمـات العرفيـة وصـولاً إلى تدمـير الحياة بكل أشكالها. فيما الجـهاد في الإسـلام له غاية وهدف. ويـجب أن تكون مقدماته سليمة وتامة حتى تكون حصائله إيجابـية فتعـود بالخـير والفائـدة على الإنسان مسلماً كان أم مسيحياً. ولعل مشاهدة بعـض أشرطة القتل والتعذيب والتخريب والتدمير التي يتباهى أصحابها بإذاعتها ونشرها على صفحات الانترنت كفيل بأن نعرف أنّ هذا المنهج الجهادي عدـيمي وعصبوي، يطوي أصحابه طريقاً لا تـؤدي إلا إلى متاهات واستحالات ومنزلقات شديدة الخطـورة ديـنياً واجتـماعياً وأخـلاقياً. المـشاهد التي عرضها التلـفزيون الاسرائيلي عن مقاتل أبدى استعداده للتحالف مع الإسرائيليين وشارون لإسقاط الأسد تؤكد أنّ ما يسمى الحركة الجـهادية في سـوريا قد تجاوزت الخطوط الحمر وأتاح لها العجز واليأس ربما، أن تؤالف بين الأصـدقاء والاعـداء، بين الخير والشر على حد سواء. المسألة هنا اكبر من التباس، فعندما يُعزل الجهاد عن القيم، يتحول إلى نزوات انتقامية ومذهبية لا إلى اجتـهاد في قبال النـص. وأخـطر من ذلك، ما صدر مؤخراً عن لسان الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج «الشريعة والحياة» على قناة «الجزيرة» بقـتل كل من يقف إلى جانب النظام السـوري عسـكريين كانوا أم مدنيين، علماء أم جاهلين. وعند هذا المنطق يستوي الجميع أمام آلة القتل التي يريدها القرضاوي مسلّطة على رؤوس الجميع حتى سقوط النظام. نعم، كل شيء يختل ويتشوش. مع أنّ القرضاوي في أمكنة أخرى هو من دعاة السلام والرحمة والديمقراطية والتعددية وثقافة الرأي والرأي الآخر! رحم الله العالم الكبير الدكتور مصطفى محمود مقدم برنامج العلم والإيمان الذي قال في إحدى حلقات برنامجه: «إنّ فاتنا العلم فلا تفوتنا الأخلاق».
إنّ الجماعات المسلحة التي تـبرّع لها البـعض بفتاوى هي أقرب للشعوذة، قد فاتها العلم والأخـلاق معاً. وقد تحوّ ل الدين على يديها إلى دين للقتل والإجرام والسلب وأداة للسيطرة والتحكم والهيمنة الفكرية والسياسية، بحيث لا مكان للحرية الدينية ولا للتعددية الاجتماعية ولا للرأي الآخر. وبمعنى أوضح لا مذاهب وإنما مذهب واحد أحد، ولا تعايش، ولا معارضة.
اليوم، الجهاد في سوريا يسقط كفـكرة وكآليّة. والمصطـلح بحد ذاتـه بات ينـطوي على التـباس كبـير لأنـه تفـلّت من أي تعـريف دقيـق ومعـيار صحـيح. لا جـهاد من دون نظـرة إلى الوجود والإنسان والحياة. الجهاد في الإسـلام جاء ليعـطي النـاس الحـرية والعـدل ويرفـع الظـلم ويخلق مجتمعاً متحرراً من الخـوف، وعلى أنّ كـل فرد فيـه يملك رأياً ومـوقفاً. الجهاد مشروع حضاري ولا بد أن يقـود إلى تصـور واضـح لبناء الإنـسان والحياة. ومن غير المأمول أن يُنـتج العـنف المجـرد عن أي أهـداف إنــسانية وقيمية وأخلاقية إلاّ المزيد من الصراعات والتناقضات والدم الذي يستدعي دماً آخر.

أستاذ جامعي وحوزوي