لم تكد تستقر الدولة الإسلامية(دولة الخلافة) ،الأموية والعباسية حتى نشط الفكر الإسلامي في طرح مسائل هامة تكسر سياج العقل الدوغمائي المتصلّب ،وتفتح آفاقاً رحبة في فهم النصوص الدينية، ما يجعلها قابلة للنقاش ومفتوحة على آفاق التجديد، ومعروف أنّ أهل الاعتزال هم الذين افتتحوا هذا النقاش، بطرحهم مسألة"خلق القرآن"،والتي مهّدت لطرح إشكالية المرور من الخطابات الإلهية إلى الخطابات البشرية. فالقرآن الكريم عندهم ليس أزلياً كالله تعالى، إنّما هو مخلوق في لحظة ما من الله، فالله وحده الأزلي والسرمدي، وهذا يقتضي الحديث عن مستويين للخلق: الأول هو الخلق على المستوى الإلهي المتعالي، والثاني هو الخلق على المستوى التاريخي البشري، فالمعتزلة يقولون بأنّ القرآن متجسّد في لغة بشرية وحروف عربية، وبالتالي يجب استخدام كل مصادر فقه اللغة العربية وأسرارها البيانية من أجل فهمه  وتفسيره ، والتوصّل إلى المقاصد الإلهية المعبّر عنها في نص قيل بلغة بشرية.وعلى كل حال فقد أغلق هذا النقاش الخليفة العباسي القادر،وقمع أصحابها، فبات من المستحيل التفكير فيها حتى يومنا هذا.

  واليوم،هل ما زال ممكنا الحديث عن تجديد فقهي وديني في خضم الأحداث المأساوية التي تشهدها بلادنا اليوم؟ ويجب أن تكون الإجابة بنعم واثقة، نظراً للهيجان الديني المتصلب والعنيف الذي تشهده الساحة الاسلامية اليوم، ذلك أنّ الاجتهاد هو عمل من أعمال الحضارة، وجهد من جهودها، فقد مارسه المسلمون الأوائل طيلة القرون الغابرة حتى مشارف عصر الانحطاط، ولامسه المصلحون الإسلاميون المجددون أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فتساءلوا ( لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم)، حسب صيحة شكيب أرسلان. وقد مثّل لهم الاجتهاد قمة العلم المحمود، والذي مداده يوازي دماء الشهداء، فاستطاعوا بواسطته خلق حقل فكري جاد لثقافة ونظام معرفي مؤسّس لنظام سياسي واجتماعي وقانوني،وقد ساهم الإصلاحيون الذين حلموا بالتجديد على كافة الصُعد بالدعوة إلى مغادرة كهوف القرون الوسطى لأنّها مرعبة ومميتة، وفيها تكمن جذور تخلفنا ومآسينا ، ويحق لنا اليوم الدعوة لمراجعة"التراث الإسلامي" كله، وتأسيس "لاهوت" جديد في الإسلام، لاهوت يؤسّس لعلاقة جديدة بين الله والإنسان، بين المجال المقدس والمجال الدنيوي، بين العبادات والمعاملات، وهل تقدّمت أوروبا إلا بعد أن قامت بالإصلاح الديني الذي تبعه الإصلاح السياسي والاجتماعي والأخلاقي؟

  وهل أوضاعنا اليوم تسمح بهكذا سجالات!فلسنا في لحظة نهضوية على كافة الصُعد، وتاريخ الجمود عندنا يُرجعُه البعض إلى تاريخ غياب ابن رشد، الذي مضى عليه أكثر من ثمانية قرون، لم ينتصر الغزالي على ابن رشد، بل حركة التاريخ هي التي سارت القهقرى وما زالت، وهي التي أزاحت ابن رشد وابن خلدون وتراث الفلاسفة العرب والمسلمين المجيد. وحركة التجديد لا يمكن لها أن تكون مذهبية، ولا مشرقية أو مغربية ،وليست عربية أو فارسية أو تركية، بل هي مشروع كلي ومنفتح وحرّ وحقيقي، التجديد ليس مصالحة ظرفية بين السّنة والشيعة، أو بين المذاهب الإسلامية، بل مصالحة فعلية مع أديان أهل الكتاب،  ومنفتحة بين القوميات والأعراق على اختلاف مشاربها وثقافاتها، وهذه دونها عقبات لسنا بالغيها إلاّ بشقّ الأنفس، وسيتحمّل المُتصدّون لها كلّ أنواع التقريع والتجريح، وصولاً إلى التكفير. والعاقبة للمتّقين.