على مرّ العصور كانت اللاشرعيات تتجاور مع الشرعيات، وتتساكن معها، فتتآلفان وتختلفان، وقد تتصارعان، ثمّ تعودان للتصالح، وقد تصلان إلى حدّ التناقض، وقد تتبادلان الأدوار، فإذا بالشرعي يتحوّل مع الزمن إلى لا شرعي، والعكس صحيح. وهذا يحصل، باختلاف الحقب الزمنية، وتنوع الإمبراطوريات والدول الحاملة للشرعي واللاشرعي. في القرون الوسطى كان التعذيب مُباحا وشرعياً، وكانت تُنظّم له احتفالات خاصة ومهيبة ،ليحضرها العامة، فيبتهجون ويمرحون، كما يحدث هذه الأيام في مباريات كرة القدم وأشباهها، وكان تشريح الجثث لأغراض طبية مداناً ومستنكرا.

أمّا في أيامنا هذه فالتعذيب مدان ومستنكر، والتشريح  مطلوب ومبارك. في الولايات المتحدة الأميركية، كانت المشروبات الروحية محصورة، وشُرّعت فيما بعد، وفي تاريخ نشأة مدينة"لاس فيغاس"، مدينة اللهو والقمار والرذائل، أنّ أرضها كانت صحراء قاحلة ومهجورة، فسمحت السلطات بإجازة العاب القمار واللهو وتعاطي المشروبات الروحية، فنشات مدينة يزورها أربعون مليون سائح سنويا. من اللاشرعيات ما يستجيب لحاجات اجتماعية مُلحّة، كالسكن في المقابر، في مدينة كالقاهرة، أو تنامي الأبنية العشوائية في أكثر من مدينة عربية، ففي لبنان مثلا، ومنذ حوالي نصف قرن،تمّت استباحة منطقة الأوزاعي، وهي مُلكيات للدولة أو للأفراد، وهي الآن منطقة سكنية وتجارية، وغير"شرعية".

أمّا سائقو سيارات الأجرة في المناطق النائية فلا يملكون الرُّ خص المطلوبة، ومع وجود الدولة، ولا يمكن قمع المخالفات، بل لعلّه مستحيل.وفي بعض الدول المتقدمة، وحيث يصعُب على الدولة كبح بعض اللاشرعيات، فهي تلجأ إلى تلزيم الأمر لشركات خاصة تتولى ذلك مقابل أجر معلوم.

في تاريخنا العربي، في سبعينيات القرن الماضي، عندما أرادت المقاومة الفلسطينية إقامة سلطتها وشرعيتها في مقاومة إسرائيل، في بلد كالاردن،وتتساكن مع شرعية الدولة، لجأت الأخيرة إلى حسم التناقض، وطردت الفدائيين من أراضيها واستعادت سلطتها. فلجأ القسم الأكبر منهم إلى لبنان حيث تمّت شرعنة وجودهم باتفاق القاهرة(السيئ السمعة)، وعانى لبنان بعد ذلك من حرب أهلية، دامت خمسة عشر عاما، وما زالت تداعياتها حاضرة إلى يومنا هذا. إنّ أغرب ما في حالتنا اليوم، أنّنا وبعد اتفاق الطائف،في تسعينيات القرن الماضي، جرت عملية شرعنة دُويلة في حضن الدولة الشرعية هذه المرة.لم يعد الأمر متعلقا بلاشرعية عابرة وظرفية، أو حاجة اجتماعية ملحة، أو احتلال أجنبي قسري، بل إنّ الدولة الشرعية، تسمح لتنظيم مسلّح ،بأن يتولى مهام تحرير الأرض المغتصبة بدلا عنها، وتسمح له بالتحشيد العسكري، واستقدام الأسلحة اللازمة، بما فيها الصواريخ، واستعمال الأرض مستقرا وملجأً، وتوفير الضمانات السياسية والدبلوماسية اللازمة لذلك، ومنحه امتيازات لا حدّ لها، كامتلاك قناة إعلامية فضائية وشبكة اتصالات، والحصول على الإمدادات المالية والعسكرية.

كل هذا حصل ويحصل على امتداد ربع قرن، وما يزال الوضع يزداد سوءا وتدهورا على كافة الصعد، وما زال القسم الأكبر من سياسيي لبنان ، وعند كلّ أزمة ومازق ومنعطف ومنحدر، ينظرون إلى الإصبع، لا إلى القمر الذي تشيرُ إليه الإصبع.