في مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات، عاش المصريون واحدة من أكثر اللحظات أملاً في تاريخهم، عندما تمكنوا من إسقاط رئيس استبد بحكمهم ثلاثين عاماً، بدا لهم خلالها وكأنهم استعادوا السيطرة على مصيرهم، وباتوا قادرين على صنع مستقبلهم، حتى أنهم بدأوا زمنهم الجديد بتنظيف الميدان الذي شهد ثورتهم واستحال أيقونة تحرر لإرادتهم. غير أن الأيام توالت، شهوراً وأعواماً، داروا خلالها في فلك حكومات انتقالية، وصوتوا في انتخابات برلمانية ورئاسية، كما في استفتاءات دستورية، دون ملامسة الحلم أو حتى إدراك الطريق، حتى صار كثيرون، من فرط شعورهم بالدوار السياسي، يحنون إلى ما قبل 11 شباط(فبراير) 2011م.

ربما يلخص أزمة مصر كونها محشورة بين جماعة دينية متخلفة أفسدت «لحظة فبراير»، وبين جيش وطني عظيم فوضته الجماهير في «30 يونيو»، لاستلام السلطة من الجماعة، فنهض بالمهمة على طريقته في 3 تموز (يوليو) 2013م. عبر ستة عقود تلت ثورة 1952م لم تتبلور في مصر قوة مدنية مستقلة قادرة على التفاعل والتفاوض السياسي، فاقتصر صراع السلطة على ثنائية الإخوان كجماعة دينية، تمتد جذورها في الربع الثاني للقرن العشرين، والجيش كمؤسسة وطنية برز دورها السياسي في النصف الثاني من القرن نفسه. صاغت الجماعة لنفسها كهفاً في الداخل، وامتداداً في الخارج تنتشر من خلاله، عبر مشروع أممي. أما الجيش فحافظ على وطنيته بحكم تكوينه في قلب الدولة الحديثة، وتمدده في قلب كل بيت مصري تقريباً.

ظل مشروع الجماعة مجمداً في ثلاجة الزمن، حبيساً للوعي، في انتظار لحظة التمكين، فيما مورس مشروع الجيش عملياً لستة عقود توزعت على ثلاثة عصور، اشتركت جميعها في افتقاد الحرية، ولكنها اختلفت كثيراً فى نوعية الاستبداد وقامة المستبد، بين عصر ناصري اتسم استبداده بالعدل الشديد، والتحديث الفعال، وتأسس على التفتح الثقافي رغم الانغلاق السياسي، فكان بمثابة صفقة شاملة جيدة بمعيار زمانها. أما استبداد السادات فكان قصير العمر، نسبياً، مورس لعقد واحد شهد توتراً جدلياً بين الحرب والسلام، بين الأحادية الصلبة والتعددية المقيدة، فكان بمثابة خطوة إلى الأمام سياسياً، وإلى الخلف سواء على صعيد العدل الاجتماعي بفعل سياسة الانفتاح على السوق الحر، وهي سياسة غير منكرة مبدئياً فيما لو تمت وفق أصولها. أو على صعيد التفتح الثقافي بفعل استخدام التيارات الإسلامية المحافظة في قمع التيارات الحديثة المناوئة لحكمه، ما أودى به في النهاية. وأما عصر مبارك فكان استمراراً سياسياً لعصر السادات على صعيد التعددية المقيدة، مع اتساع في هامش التحرر الإعلامي بحكم طبيعة الزمن وضروراته المستجدة، ولكن مع تراجع فاحش على صعيد العدالة أدى لإفقار الطبقة الوسطى التقليدية، وإن خلق هامشاً لطبقة وسطى جديدة دخلت في تفاعل مع الطبقة الرأسمالية الجديدة، كحليف ومبرر. أما ثقافياً، فكان ثمة تراجع كبير نحو المحافظة والرجعية على صعيد نمط الحياة، خصوصاً مع انتشار النقاب وهيمنة الحجاب. وإما نحو التفاهة والسطحية خصوصاً على أصعدة الفن إنتاجاً وتذوقاً. فإذا ما أضفنا إلى ذلك حالة الرخاوة التي اتسم بها في التعاطي مع العالم الخارجي، والتي أفقدت مصر دورها الاقليمي، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، أدركنا لماذا كانت «عاصفة يناير».

سارت «25 يناير»، بأحلامها الكبرى، على طريق الإخوان الأحادي الاتجاه، ولكن سرعان ما فقدت الجماعة حكمها نتيجة قصورها البنيوي، ورجعيتها الثقافية التي صورت لها مشكلات مصر كأزمة هوية لا يحلها سوى ذلك المشروع الديني الأممي، المستحيل بالمعايير التاريخية. ولأن التصورات كانت زائفة فقد نتجت عنها أسئلة مزيفة، وإجابات غير مجدية في قيادة مجتمع متمدن، عرف الحداثة (السلطوية) وانتفض ضد مبارك مطالباً بحداثة ديموقراطية، لم يكن مستعداً للتخلي عنها لمصلحة مرسي ومرشده، حيث التصورات العامة معادية للقيم المدنية، والسياسات العملية مناهضة لمؤسسات الدولة، التي بدت أقرب إلى آلة تتحرك بعض تروسها ضد الأخرى، يطحن كلاهما الآخر، حتى بدت على وشك الانهيار بعد عام واحد، وهنا تقدم الجيش باسم الجماهير لاستلام السلطة منها.

غير أن الجماهير لم تبارك إقدام الجيش رغبة في صفقة سياسية على الطريقة الناصرية، لأن العدالة الجذرية التي طبقها عبدالناصر لم تعد ممكنة بحال، وإذا ما استعيدت صفقته القديمة مجدداً فلن يبقى منها سوى انغلاق سياسي تبدت ملامحه في الفترة المنقضية من ولاية الرئيس السيسي، إلى درجة فجرت لدى المصريين شعوراً عميقاً بالإحباط يمكن تفسيره بأمرين: أولهما هو فقدان الأمل في تغيير قريب، لأن نهايات العصور غالباً ما تشهد شعوراً بالتوثب إلى ما هو أفضل، أما الآن فنحن في بدايات عصر يفترض أنه جديد بمعيار الزمن، ولكنه يظل قديماً بمعيار السياسات. وثانيهما أن الثورات الشعبية إن لم تنجح في تحقيق أهدافها التحررية، فالأغلب أن تؤدي إلى تجديد دورة الاستبداد، وهو ما يبدو أن مصر مشرفة عليه.

وهنا لابد من التوقف لصياغة القضية في ما يشبه معادلة رياضية من طرفين: الأول هو أن الغالبية الساحقة من المصريين، وكاتب هذه السطور واحد منهم، ترفض الجماعة رفضاً مطلقاً، ولو استمرت هيمنة نظام الحكم القائم، المتجذر في تراث «23 يوليو». والثاني هو أن أشواق التغيير لدى النخبة المصرية لم يتم إشباعها، وأن تضحياتها التي أنتجت لحظة «11 فبراير» المشرقة لم تؤت ثمارها بعد، ومن ثم تعمقت مظاهر الإحباط، خصوصاً لدى شباب الطبقة الوسطى المدنية، وهو إحباط لا يمكن الخلاص منه إلا عبر طريقين: أولهما هو فتح المجال العام تدريجياً وسريعاً، بما يضمن استعادة السياسة أولاً، ثم الحرية تالياً. وثانيهما هو الاندراج في مسار ثوري جديد يناقض المشروعيتين اللتين تصارعتا طويلاً على المصير المصري، سعياً إلى تأسيس مشروعية جديدة كلياً، تتجذر في تراث الحركة الوطنية المصرية، خصوصاً التراث الليبرالي لثورة 1919، وتراث العدالة الاجتماعية لـ «ثورة يوليو»!...