سيبقى قرار المملكة العربية السعودية وقف مساعداتها للعسكر والأمن في لبنان موضوعاً تتناوله وسائل الاعلام يومياً بالبحث والتحليل. والأسباب هي الخوف من قرارات أخرى تطال "لبنانيي الخليج" أو تؤذي مباشرة الوضع النقدي والمصرفي، أو تتسبب بغليان سياسي لا شيء يمنع تحوله غلياناً أمنياً وما هو أكثر. والأسباب أيضاً هي انخفاض المداخيل المالية للمملكة أولاً بسبب انهيار أسعار النفط، وثانياً بسبب ازدياد نفقاتها العسكرية نتيجة حرب اليمن، والاشتراك في "التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب" الذي أنشأته أميركا، ومبادرتها هي إلى إنشاء تحالف عربي – إسلامي ضد الإرهاب، واضطرارها جرّاء حاجتها إلى تعاون الأشقاء والأصدقاء وغالبيتهم "غير ميسورة"، إلى متابعة توظيف الثروة والمال في السياسة. لكن السؤال الأساسي الذي طرح وخصوصاً منذ انتقال السلطة في المملكة من الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز إلى شقيقه سلمان، والذي سيستمر طرحه لأن لا مجال للأجوبة الشافية قبل انتهاء الأزمات والحروب هو: لماذا قررت الانتقال من سياسة الدفاع إلى الهجوم، بعدما كانت في السابق تكتفي بالحد الأدنى لمواجهة ما يجري في المنطقة بالتعاون مع أميركا من دون أن تورّط نفسها عسكرياً؟
ليس هناك جواب واحد عن هذا السؤال، بل مجموعة أجوبة، أولها وصول الجيل الثاني الشاب إلى الحكم، وبعضه يتصف بالحماسة والطموح العام والشخصي في آن، وإدراكه أن المال الذي "صُرف" من زمان على الأصدقاء والأشقاء كان مردوده على المملكة أيام الخطر والشدّة أقل من المتوقّع. وثانيها الشعور بتنامي خطر إيران بعد "ربيع اليمن" الذي قطفته السعودية برعايتها حلاً بين الحكم والثوار، والذي خطفته طهران لاحقاً بواسطة حلفائها الحوثيين والرئيس السابق علي عبدالله صالح. وثالثها إدراكها أن الوضع الاقتصادي الصعب للأشقاء العرب الكبار، وانشغالهم بالارهاب وحاجتهم إلى المال السعودي بكمياته الضخمة، لا يدفعانهم إلى التخلي عن استراتيجياتهم الإقليمية وخصوصاً تجاه سوريا الداخلة في أمنهم الإقليمي، وعن أهمية دورهم وخصوصاً عندما "يُخطَرون" بأحداث مهمة ستقوم بها الرياض لهم دور فيها من دون التشاور معهم مسبقاً. ورابعها أن الأشقاء الإسلاميين وعلى رغم التاريخ الطويل من التعامل معهم ومن مساعدتهم، لم يُقدِموا عندما احتاجت إلى مددهم العسكري متذرّعين برفض غالبية مجلسهم النيابي وبالتصويت، التدخل عسكرياً في الخارج. وخامسها تزعزع ثقتها بحليفتها وحاميتها المزمنة أميركا بعد اتفاق الأخيرة في إطار المجموعة الدولية 5+1 مع إيران الإسلامية ومن دون التشاور معها مسبقاً، وبعد بروز شكوك مبرّرة ربما في احتمال قيام علاقة تحالف أو على الأقل عمل منسّق بين طهران وواشنطن. وقد أزعج الرئيس باراك أوباما السعودية كثيراً بموقفه الذي سمعه منه مسؤولون أميركيون وأجانب، وهو أنه لا يريد أن يعمل شيئاً وخصوصاً في سوريا. كما أزعجها باعتماده التلاعب والمناورة (Manipulation) في كل ما يتعلق بالملف السوري وبالملف الإيراني وبالملف المصري وبالملف التركي... أما سادس الأسباب وآخرها فكان إدراك المملكة "الجديدة" إذا جاز التعبير على هذا النحو، أن معاناة شقيقتها المسلمة والإسلامية تركيا وخصوصاً مع أميركا ولاحقاً مع روسيا لا تقل عن معاناتها هي. فأوباما يرفض توفير مستلزمات قيام منطقة آمنة داخل سوريا حتى قبل تدخُّل روسيا، خشية أن يورّطه ذلك في التدخل المباشر عسكرياً لحمايتها، وتالياً أن يستدرجه للتورّط الواسع. وحلف شمال الأطلسي بزعامة أميركا رفض رسمياً وعلانية مساعدة تركيا إذا تورّطت عسكرياً مع روسيا. وهذه تربح اليوم في سوريا. لذلك كلّه وجدت الرياض وأنقرة نفسيهما مضطرتين إلى التعاون سياسياً وعسكرياً. غير أنهما تعرفان أنهما لن تنجحا من دون دعم أميركا. لذلك فإن تهديداتهما المتكررة بالدخول البريّ إلى أراضٍ سورية من حدود تركيا، أو بإرسال قوات برية إلى سوريا من حدود أخرى تراجعت حدّتها عندما أعلنتا أن تنفيذها رهن بقيادة أميركا لها.
انطلاقاً من ذلك فإن ما يجري اليوم هو استمرار حرب السعودية في اليمن من دون أفق حتى الآن ومتابعتها مع تركيا تدخلاً مزعجاً في سوريا لن يصبح حاسماً إلا إذا قضى بتزويد الذين يقاتلون الأسد صواريخ أرض – جو، وذلك ممنوع حتى الآن. ولن يُسمح به إلا إذا انتهى تفاهم الحد الأدنى الأميركي – الروسي "وكَبر رأس بوتين" كما يُقال وصارت مطالبه لا تُطاق. وساعتها تصبح سوريا وربما المنطقة أفغانستان جديدة لروسيا.
هل يرتكب بوتين الخطأ القاتل؟ وماذا يفعل حالياً؟