في تجسيد تلك اللحظة معانٍ قاسية، حين تنظر الأم بعيني التوق الى ولدها المصاب بالتوحّد وتجده سارحًا في عالم آخر.

ولعلّ طفلها يعيش على مقربةٍ من العالم الحسيّ ، لكنه لا يدخل دهاليز يوميّات بشريّة عاديّة، بل يفضل السرحان في عوالمه السريّة. حين تنظر في لمعان عينيه، تلمح ذلك الثقل في نظراته. كم من لوحةٍ فيها غصّة تجتاح كيان الإنسان عندما ينظر الى طفلٍ مصابٍ بالتوحّد؟ الّا أن هذا الصبي المبحر في عالم الزمرّد، يعلم في أعماقه أنّه يريد التعبير عن ذاته بإيجابيّة وينتظر عابر سبيل يمرّ أمامه فيدركه ويقرأه ويفكّ أحرف رسالته الناطقة بالسرحان.

قد يستطيع شخصٌ واحدٌ انقاذه، فينقله من سكون الوحدة القاتم الى برّ ألوان الحياة الزاهية. ومن يعلم، قد تكشف ستارة الأيّام عن ولدٍ متميّز، كقصّة الطفل فضل ابن الأربع سنوات وحكاية محمّد وكريم الذين انقلبت حياتهم بعدما اكتشفت قدراتهم فغادروا دنيا الأسرار وعادوا الى أحضان أمهاتهم بابتسامة.  

ذكاء خارق بين ليلةٍ وضحاها تغيّر كلّ شيء. حصل ذلك في يومٍ واحد حين استطاع فضل، الطفل اللبناني المصاب بالتوحّد، التعبير عن ذاته وقدراته العلميّة، والانتقال من عالم التقوقع الى عالم المشاركة الحسيّة، فأدهش محيطه بذكائه الخارق على رغم عدم تجاوزه عامه الرابع.

تروي الدكتورة في التعليم والتحليل السلوكي شفيقة منصور غربيّة في حديثٍ لـ"النهار"، قصّة ذلك الطفل المؤثّرة: "نشأ فضل في مدرسة عاديّة دامجة في الجنوب وكان يعاني صعوبات سلوكيّة تتمثّل بالعدوانيّة في التصرّف مع الأولاد، واعتقد أهله أن لا قدرات إدراكيّة لديه لأنه لم يكن يعلم معنى الإنتظار.

واكتشفت مهاراته بعد زيارته مركز الجمعيّة العلميّة للتوحّد والتحليل السلوكي، وذهلنا باهتمامه بالحساب والرياضيات وتركيب الأرقام في دقيقة واحدة واكتسابه اللغة الإنجليزية بطلاقة وتوظيفها واستطاع حلّ لعبة "بازيل" معقّدة في غضون 20 ثانية". وتلفت الى أن "المعارف التي اكتسبها فضل في ساعة واحدة يحتاج الطفل العاديّ الى أكثر من 6 أشهر لإكتسابها".

وكذلك استطاع كريم تخطّي صعوباته الإدراكيّة بحسب ما تشير المعالجة النفسيّة ساندرا الخوري: "كان كريم يعاني صعوبات إدراكيّة كبيرة لكنه استطاع تخطّي واقعه بعد اكتشاف قدراته وبات اليوم من أكثر التلامذة اجتهادًا في صفّه واضطر أهله لأخذ صفوف متقدّمة لتعلّم اللغة الفرنسيّة كي يستطيعوا مجاراته في مستواه العلميّ".

في حين استطاع الطفل محمّد حفظ ما كتب على أرقام البطاقات التي أعطيت له هدفًا في تلقينه اللغة والكلمات، وبات حين يرى رقم البطاقة التي تعطى له يعلم ما كتب عليها وحفظ 100 عبارة مكتوبة على 100 بطاقة ولم يصدّق المعالجون النفسيّون ما حصل.   التوحّد في لبنان رغم اعتقاد شريحة واسعة من اللبنانيين في أن التوحّد عبارة عن مرض يصيب الأطفال، الّا أن هذه النظرية خاطئة.

فالتوحّد هو اضطراب في النمو يعيق الطفل عن التعبير والتواصل الاجتماعي مع محيطه وتتوالى عوارضه في الظهور خلال السنوات الثلاث الأولى من حياته، بيد أنها تختلف بين ولد وآخر وتتمثّل بتطوّرٍ بطيء في اللغة أو اضطرابٍ في السلوك ونوبات غضب.

وفي هذا الإطار، تعتبر رئيسة الجمعيّة اللبنانيّة للتوحّد أروى الأمين حلاوي أن "عمليّة إحصاء أعداد الأطفال اللبنانيين المصابين بالتوحّد في لبنان صعبة في ظلّ عدم توافر إحصاءات رسميّة من جهة، وعدم رغبة بعض الأهالي في إنشاء بطاقة معوّق لولدهم في حال لم تتسّم حالته بالسوء، فيفضّلون عدم زجّه في هذا المفترق معوّلين تالياً على إمكان تحسين قدراته بالشكل السريع".

وعن أعداد الأولاد الذين قصدوا الجمعيّة في العشر سنين الأخيرة بهدف تنمية قدراتهم بين عامي 2005 و 2015، تشير الى أن "نحو 650 طفلاً تتفاوت حالتهم بين التوحّد الطفيف والشديد زاروا الجمعيّة اللبنانيّة للتوحّد، في حين أننا ساهمنا في تطوير مهارات 90 ولداً في السنة الأخيرة".

وكيف تطوّرت نظرة الللبناني الى التوحّد خلال الأعوام العشرة المنصرمة؟، تجيب: "يمكنني التحدّث عن خبرتي الشخصيّة هنا، إذ إن ولدي يعاني حالة التوحّد وكان الناس يعتقدون منذ عشر سنوات أن الصعوبات السلوكيّة التي يعانيها سببها عدم التربية الصحيحة أو عدم اهتمام جليّ من الأهل نظرًا إلى عدم معرفتهم بمعنى الإصابة بالتوحّد. أمّا اليوم، فباتت غالبيّة من المجتمع اللبنانيّ تدرك معنى هذه الحالات وتتفهّمها ويساهم الأهل في اكتشاف اولادهم المتوحّدين منذ السنوات الأولى".

  خصائص خاصّة وأسباب غامضة "كيف يكتشف الأهل أن أولادهم مصابون بالتوحّد؟" سؤالٌ طرحناه على المعالجة النفسيّة ساندرا خليل الخوري التي تعتبر أن "الأم والأب يكتشفان الفروقات في التفاعل بين ابنهم والأولاد الذين يقاربونه في السن كأطفال الجيران أو الأقارب بسهولة، وهم على هذا الأساس يعلمون في حال وجود أي خلل يعتري سلوكات ابنهم".

وتتمحور نتائج الدراسات بين الخلل الجينيّ ومسؤوليّة الأهل في إهمال الولد وعدم قدرتهم على التفاعل الايجابي او الصحيح معه، الّا أن هذه النظريّة مستبعدة نوعًا ما، في حين تشير بعض الدراسات الأخيرة الى إمكان ارتباط هذه الحالات باللقاحات التي تعطى للأطفال، الّا أن لا شيء مؤكّداً".  

أنواع التأهيل "تتفاوت إمكان شفاء طفل التوحّد بحسب إمكان تماثله لعمليّة إعادة تأهيله واكتشاف قدراته"، بهذه العبارة تلخّص الخوري إمكان تماثل طفل وهي تميّز بين نوعين أساسيين من أنواع تأهيله: • برنامج التأهيل ABA والذي يعتمد على تفعيل الأحاديث مع طفل التوحّد من خلال جمل قصيرة ويعطونه مكافآت معنويّة مقابل تنفيذ أعمال معيّنة. • النوع ثاني من التأهيل هو teach الذي يعتبر برنامجًا قائمًا حول مستويات خاصّة ومواضيع معيّنة تطرح على الطفل أسبوعياً.   ما هي العلاقة بين التوحّد والتكنولوجيا المساعدة على الانجاب؟   على رغم الضبابيّة التي لا تزال تعتري الأسباب المؤديّة إلى إصابة الطفل بطيف التوحّد، الّا أن الدراسات الأخيرة باتت تتساءل حول مسؤوليّة التكنولوجيا المساعدة على الإنجاب في مضاعفة خطر الإصابة بالتوحّد بحسب ما نقل موقع CDC الإلكتروني. وتبيّن أن الأطفال الذين انجبوا من خلال استخدام هذه الأنواع من التكنولوجيا هم الأكثر عرضةً للإصابة بطيف التوحّد مرّتين دون سواهم.

ويرجّح السبب في ذلك الى ارتفاع احتمالات النتائج السلبيّة للحمل والولادة بهذه الطريقة مثل الولادة المبكرة أو انجاب التوأمين. وتبيّن أن من الأفضل زرع جينة واحدة بدلًا من عدّة أجنّة.

كما أظهرت الدراسة أن 0.8% من الأطفال الذين ولدوا من خلال حمل أمهم بولد واحد من طريق تكنولوجيا مساعدة الإنجاب أصيبوا بالتوحّد في حين أن 1.2 % من التوائم الذين ولدوا بالعمليّة نفسها شخّصت إصابتهم بطيف التوحّد.   حفرة sulcal مسؤولة عن الإصابة بالتوحّد؟ تمّ الحديث عن اكتشاف علامة محددة في الدماغ مسؤولة عن الإصابة بحالة التوحّد بحسب ما أشار موقع le point الإلكتروني. وقد نشرت الدراسة حديثًا في 12 كانون الثاني الحالي في دورية الطب النفسي البيولوجي.

وأشار علماء الأعصاب الإدراكي وتصوير الأعصاب الى أن هذه الدراسة تبعث الكثير من الآمال في النفوس. وحدّد العلماء علامة اكتشفت بواسطة التصوير بالرنين المغناطيسي، وهي يمكن أن تسهل التشخيص والعلاج المبكر للمرضى منذ عام السنتين. وفي التفاصيل، ركّز الباحثون من معهد علوم الأعصاب على دراسة علامة هندسية جديدة، تسمى "حفرة sulcal"، وهي أعمق نقطة من كل أخدود القشرة الدماغية. وقاس فريق التصوير بالرنين المغناطيسي هذه الحفرة الشهيرة على 102 فتيين تراوح أعمارهم بين 2-10 سنوات.

ووجد الباحثون أن عمق الأخدود في المنطقة المعنية باللغة والتواصل كان أقل بين الفتيان الذين يعانون مرض التوحد عن غيرهم. وعلاوة على ذلك، اعتبروا أن ضمور الأخدود مرتبط مع أداء الأطفال المصابين بالتوحد وسلوكهم التواصلي.

وتالياً فإن عمق الحفرة الدماغيّة المذكورة يساهم في اكساب المزيد من المهارات الإدراكيّة.   يبقى التوحّد حالة قد تزور أي عائلةٍ لبنانيّة، ويبقى الأهم متابعة الأهل لسلوكات أولادهم منذ السنة الأولى على ولادتهم وعدم استسهال أي عارض مقلق أو غير طبيعي يطرأ على سلوكيّاتهم. كي يفيض طفل التوحّد بمعنى المشاعر والأحاسيس ويهجر قصر نظراته الغريب، وحين تناديه أمّه بنبرة الحنان يقول لها: "ماما".

النهار