ليس أكيداً أنّه يمكن فرض وقف لاطلاق النار في سورية، خصوصا ان روسيا لا تزال تعتقد ان وقف النار لا يعني وقف قصفها لحلب والمناطق المحيطة بها. تستخدم روسيا حجة اسمها «داعش» للتهرّب من الاعتراف بأنّها جزء لا يتجزّأ من الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.

يظلّ المطروح، في غياب وضوح ما اتفق في شأنه وزيرا الخارجية الروسي سرغي لافروف والاميركي جون كيري في ميونيخ، ما الذي تريده روسيا من خلال حملتها العسكرية في سورية ؟

كلما مرّ يوم، يتبيّن ان هدف الحملة التي بدأت في ايلول ـ سبتمبر الماضي يتمثّل في المساهمة في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري ولا شيء آخر غير ذلك. عدم الوضوح لا يعني غياب الثمن الذي يطالب به فلاديمير بوتين.

ما حقّقته الحملة الروسية الى الآن، جعل قوات المعارضة المعتدلة في تراجع على جبهات عدة، خصوصا في منطقة حلب. فضلا عن ذلك، استطاع القصف الروسي تهجير عشرات آلاف السوريين وقطع خطوط امداد للثّوار.

   


يحصل ذلك في وقت ليس ما يشير الى ان تركيا قادرة على مساعدة السوريين، خصوصا بعد التهديد الروسي بلعب الورقة الكردية. ترافق ذلك مع استعداد ايراني لحشد قوّات على الحدود التركية في حال اقدام الرئيس رجب طيب اردوغان على خطوة ما في اتجاه اقامة «منطقة آمنة» داخل الاراضي السورية يلجأ اليها الهاربون من جحيم حلب والمناطق المحيطة بها.

اعتاد فلاديمير بوتين على سياسة هجومية، خصوصا انّه لم يجد يوما مَنْ يقف في وجهه. وصل الى الرئاسة خلفا لبوريس يلتسن بفضل هذه السياسة التي مارسها اوّلا في الشيشان اواخر العام 1999 وبداية العام2000. ما تعرّضت له العاصمة الشيشانية غروزني في غضون ثلاثة اشهر، لم تتعرّض له اي مدينة في العالم، بما في ذلك مدن ألمانية، مثل دريسدن او برلين، خلال الحرب العالمية الثانية.

بنى بوتين كلّ حياته السياسية على غياب من يقف في وجهه. انتقل الآن الى ممارسة هذه السياسة في سورية بعد نجاحه في اوكرانيا. استطاع ان يفعل هناك ما يشاء بدءا بضمّ شبه جزيرة القرم. اكتشف الرئيس الروسي ان الاوروبيين لا يريدون اي مواجهة من ايّ نوع وان ادارة باراك اوباما تكتفي بالتصعيد الكلامي. عندما يتطلّب الوضع الاقدام على افعال، كلّ ما تفعله واشنطن هو التلطي بالموقف الروسي من جهة والسعي الى ايجاد اعذار لتصرّفات فلاديمير بوتين بغض النظر عن الجرائم التي يرتكبها من جهة اخرى... بما في ذلك اسقاط طائرة ركّاب ماليزية في الاجواء الاوكرانية.

اكتفى الاميركيون والاوروبيون بفرض عقوبات على روسيا بسبب ما فعلته في اوكرانيا. هذه العقوبات لم تمنع بوتين من الذهاب الى سورية والامساك بما يعتقد انّه ورقة مساومة قويّة يستطيع استخدامها مع الغرب.

في الواقع، ان الورقة الاساسية التي يمسك بها الرئيس الروسي هي رأس بشّار الاسد. هل هناك من هو على استعداد لدفع الثمن الذي يطلبه الرئيس الروسي؟

كشف مؤتمر لندن للمانحين الذي خصص لجمع مساعدات للشعب السوري وللدول التي تؤوي لاجئين او نازحين سوريين مدى العجز الاوروبي. تبرّعت المانيا وبريطانيا ونروج بسخاء في المؤتمر بغية تغطية عجزها عن الاقدام على اي خطوة على الأرض. كانت اوروبا تتبرّع، فيما كانت الطائرات الروسية تشارك الميليشات المذهبية التابعة لايران و«شبيحة» بشّار الاسد في تهجير الشعب السوري من ارضه وقتل النساء والاطفال وضرب قوات المعارضة المعتدلة!

في نهاية المطاف، هل هناك مَنْ يريد دخول لعبة بوتين، خصوصا ان الشرط الاول لوقف الحرب في سورية هو الانتهاء رسميا من النظام القائم؟ بات معروفا انّ لا وجود للنظام، ولو صوريا، من دون الدعم الروسي والايراني. النظام انتهى، لكنّ واجهته لا تزال قائمة وترسل وفدا الى جنيف للتفاوض مع المعارضة او من اجل عدم التفاوض معها...

عاجلا ام آجلا، سيكتشف فلاديمير بوتين ان سورية ليست الشيشان. الشعب السوري ليس الشعب الشيشاني، من دون ان يعني ذلك اي تقليل من شأن الشيشان. لكنّ الوقع الشيشاني شيء والواقع السوري شيء آخر، خصوصا الواقع الجغرافي.

برّر بوتين الحملة العسكرية في سورية للمواطنين الروس بقوله انّها لا تكلّف الخزانة اموالا اضافية. قال بالحرف الواحد ان الاموال المرصودة للتدريبات والمناورات العسكرية تصرف في هذه الحرب التي توفّر افضل حقل تجارب للجيش الروسي!

مثل هذا الكلام مخصّص للاستهلاك الداخلي في روسيا. هذا يفرض العودة الى السؤال الاساسي: هل هناك من هو مستعد لدفع الثمن الذي يطلبه بوتين؟ من الصعب ان يكون هناك من هو مستعدّ لذلك، خصوصا ان الوقت لا يعمل لمصلحة روسيا ذات الاقتصاد الهشّ الذي يعتمد اوّلا واخيرا على تصدير الغاز والنفط واسعارهما.

المؤسف ان ليس هناك من يستطيع تلبية مطالب بوتين الذي لا يستطيع بدوره التراجع. ليس هناك من هو مستعد لدفع الفاتورة الروسية التي تبدأ بالقرم واوكرانيا والقبول بالسيطرة على حقول الغاز في سورية ومنع تحوّل الاراضي السورية ممرا للغاز الآتي من الخليج والذي يمكن ان يجد له زبائن في اوروبا.

فوق ذلك كلّه، ليس هناك من يقبل رفع العقوبات المفروضة على روسيا بسبب سياستها في اوكرانيا.

مَنْ يدفع ثمن الخروج من المأزق الذي اوقع فيه بوتين روسيا؟ الثمن يدفعه الشعب السوري الذي يجد نفسه في وضع فريد من نوعه. العالم كلّه متآمر عليه. روسيا لا تستطيع التراجع وايران الحريصة على «حزب الله» تعرف ان خروجها من سورية سيفقدها الجسر الذي تمرّ عبره الى لبنان. اما الولايات المتحدة، فليس ما يمنعها من التفرّج، الى ما لا نهاية، على قتل السوريين وتفتيت الكيان السوري. ما ينطبق على الادارة الاميركية، ينطبق على اسرائيل التي تنسّق يوميا مع روسيا بعدما توصلت الى التفاهمات المطلوبة معها. ألم يذهب بنيامين نتانياهو الى موسكو للقاء بوتين عشية بدء الحرب الروسية على الشعب السوري؟

يبقى سؤال واحد: كم المدّة التي يحتاجها الاقتصاد الروسي ليكتشف بوتين انّه في حاجة الى اعادة النظر في الثمن الذي يطلبه وان لا مجال آخر امامه غير التفاوض الجدّي على رأس بشّار؟

ليس بعيدا اليوم الذي سيجد الرئيس الروسي، ومعه ايران، انّ لا خيار آخر غير التفاوض مع المملكة العربية السعودية ودول نفطية اخرى من اجل ايجاد طريقة لرفع اسعار النفط والغاز.

هذا اليوم الذي قد يعود فيه الرئيس الروسي الى رشده لا يبدو بعيدا. لذلك ليس صدفة الاعلان عن زيارة سيقوم بها لموسكو الشهر المقبل الملك سلمان بن عبد العزيز. يترافق الاعلان عن موعد الزيارة مع كلام كثير عن استعداد سعودي لخفض الانتاج النفطي مليون برميل يوميا، على ان تفعل روسيا الشيء ذاته وذلك من دون المساس بحصة السعودية في السوق العالمية. الحصّة من السوق هي النقطة الاهمّ بالنسبة الى الرياض في وقت تعمل ايران على تحقيق اختراق في هذا المجال.

هل هذه الخطوة الاولى على طريق اعادة فلاديمير بوتين النظر في الثمن الذي يريده من خلال تدخّله في سورية... مع ما يعنيه ذلك من عودته الى ارض الواقع؟

  خير الله خير الله