بعد أحد عشر عاماً على اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، يبدو أنّه آن أوان قطف ثمار الجريمة. هذا على الأقلّ ما تعكسه الرغبة لدى من يعمل من أجل بقاء موقع رئيس الجمهورية فارغاً والربط بين انتخاب رئيس وتغيير النظام السياسي. 

يُفترض بداية التنبّه إلى خطورة تلهي المسيحيين في قضايا صغيرة من نوع رئيس دائرة من هنا أو هناك، بدل التركيز على القضية الأكبر، وهي انتخاب رئيس للجمهورية والشراكة الوطنية الحقيقية. هذه ليست المشكلة الوحيدة التي اشار اليها وزير الداخلية نهاد المشنوق أخيراً. كان كلامه الآخر عن رهان قسم من اللبنانيين في مرحلة معيّنة على السلاح الفلسطيني في مرحلة معيّنة في غاية الأهمّية والشفافية. هناك للأسف من يراهن هذه الأيّام على السلاح الإيراني مثلما كان هناك في مرحلة معيّنة من يراهن على السلاح الفلسطيني. هناك من تعلّم وهناك من يرفض أن يتعلّم من تجارب الآخرين!

ثمّة عملية نقد للذات ولممارسات الماضي، قلّما تجرّأ أو يتجرّأ عليها فريق لبناني مسلم بات يعرف أن لا خلاص لجميع اللبنانيين إلّا من خلال مشروع الدولة. الدولة التي تحتكر السلاح وليس الدولة التابعة لهذا الحزب المذهبي او ذاك والخاضعة لسلاح غير شرعي.

كلّما مرّت سنة على ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يكتشف اللبنانيون أكثر أن الجريمة التي يتعرّض لها لبنان مستمرّة. نشهد في كلّ يوم فصلاً جديداً من هذه الجريمة التي تستهدف اغتيال بلد انطلاقاً من اغتيال رجل.

لا يحدث شيء بالصدفة في لبنان. يقوم جزء من اللعبة الدائرة على تيئيس اللبنانيين وإفقار بلدهم وتهجير أكبر عدد من المواطنين من الوطن الصغير. لم تكن موجة الاغتيالات التي تلت تفجير موكب رفيق الحريري سوى جزء من هذه اللعبة وفصل من فصولها.

مع اقتراب موعد ذكرى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، يكتشف اللبناني أن الصمود الأسطوري في وجه المشروع التوسّعي الإيراني بدأ يتراجع، خصوصاً في ظلّ غياب زعامات مسيحية قادرة على امتلاك رؤية للمستقبل بعيداً عن أيّ نوع من الانفعال والسير في مشروع انغلاقي على الذات جسّده في مرحلة معيّنة القانون الأرثوذكسي الأبعد ما يكون عن كلّ ما هو أرثوذكسي. 

ثمّة حاجة واضحة الى فهم في العمق للخطر الذي يمثّله «حزب الله» على ثقافة الحياة في لبنان وعلى تركيبة المجتمع اللبناني. ثمّة حاجة إلى فهم الدور الذي لعبته إيران منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي من أجل تغيير طبيعة بيروت كمدينة يعيش فيها لبنانيون من كلّ الطوائف والمناطق بعيداً عن الميليشيات وقيمها المرتبطة بالسلاح غير الشرعي. 

صحيح أن الميليشيات المسيحية والمسلمة مسؤولة عن فظاعات مرتبطة بالذبح على الهوية والتهجير المتبادل في الأعوام 1975 و1976، لكنّ الصحيح أيضاً أن القسم الأكبر من المسيحيين هجّر من بيروت الغربية، خصوصاً من رأس بيروت والمصيطبه والمزرعه، على يد «حزب الله». كان السادس من شباط 1984، نقطة تحوّل في مجال إنهاء الوجود المسيحي تدريجاً في كلّ بيروت الغربية.

ما نشهده اليوم فصل آخر من مشروع قديم بدأ بمحاولة القضاء سريعاً على معالم الحياة في بيروت. بعد فشل مشروع الانقضاض السريع على بيروت، بدأ تنفيذ مشروع آخر يقوم على الموت البطيء للبنان ولمؤسسات الدولة ولثقافة الحياة في بلاد الأرز. 

من يتذكّر ما تعرّضت له الجامعة الأميركية في بيروت، في ثمانينات القرن الماضي، من خطف لرئيسها ديفيد دودج (نقل من بيروت إلى طهران عبر دمشق)، ثم اغتيال لرئيس آخر هو مالكوم كير، وخطف لاساتذتها وصولاً الى تفجير «كولدج هول»؟

تحتفل الجامعة هذه السنة بمرور مئة وخمسين عاماً على قيامها. يعطي محيط الجامعة فكرة عن مدى تدهور طبيعة المجتمع اللبناني من جهة وحجم العزلة العربية التي يعاني منها لبنان وما كان يسمّيه الظرفاء والمثقّفون فعلاً «جمهورية راس بيروت» من جهة أخرى.

ليس سرًّا الدور الذي لعبه رفيق الحريري في إبقاء الجامعة الأميركية ومستشفاها على قيد الحياة. ليس سرًّا ما فعله أيضاً من أجل الجامعة اللبنانية وكلّ مؤسسات التعليم الرسمي. ليس سرًّا عدد اللبنانيين الذين علًمهم على نفقته لإبقاء لبنان رمزاً لثقافة الحياة.

كان كلّ ما يفعله من أجل بقاء لبنان مقاوماً لثقافة الموت وذلك انطلاقاً من عودة الحياة إلى بيروت ووسطها في حين كان هناك من يسعى إلى التدمير ونشر البؤس من أجل إيصال البلد إلى ما وصل إليه الآن.

إذا لم يكن الوقت مناسباً اليوم لانتخاب رئيس للجمهورية، متى «تنضج الظروف» كما يقول نائب عوني لا يعرف أن لبنان في خطر ولا يريد أن يعرف شيئاً عن أن المطلوب حالياً انقاذ مؤسسة رئاسة الجمهورية قبل أيّ شيء آخر وذلك للإبقاء على أمل بإنقاذ لبنان. من يزجّ نفسه في لعبة تغيير النظام، إنّما يدخل عن سابق تصوّر وتصميم لعبة تكريس الوصاية الإيرانية على لبنان.

اليوم هو الأنسب لانتخاب رئيس للبنان وليس لقطف ثمار اغتيال رفيق الحريري. اليوم قبل الغد. في غياب امتلاك ما يكفي من الشجاعة على الإقدام على هذه الخطوة، يصحّ التساؤل: هل كان رفيق الحريري ومشروعه القائم على ثقافة الحياة يجسّد المحاولة الأخيرة لإنقاذ الجمهورية اللبنانية؟

مرّة أخرى وليست أخيرة، كلّما مرت سنة على ذكرى غياب «أبو بهاء» تتوضّح أكثر فأكثر خفايا الجريمة وأبعادها.