لم تجمد او تعلّق المفاوضات السورية في جنيف. هي لم تبدأ في الاصل، لان المجتمع الدولي، او بتعبير أدق، لان الاميركيين والروس حددوا لها توقيتاً خاطئاً واختاروا جدول أعمال خيالي، يلبي الرغبات المشتركة بين واشنطن وموسكو، لكنه يبدو أقرب الى الخديعة للسوريين على إختلاف إنتماءاتهم. 

ثمة محاولة للتفاوض فشلت، لانها كانت سابقة لأوانها. والارجح انها لن تتكرر في الموعد المضروب في 25 شباط فبراير الحالي او في أي مستقبل قريب. لكنها ستظل الشاهد على ان الامم المتحدة على الرغم من حيرتها بين الاميركيين والروس وعلى الرغم من تخبطها في التعامل مع الشأن السوري وانحيازها الملموس، هي الطرف الوحيد الراغب حالياً بالحل السياسي..نتيجة الاهتمام الخاص بالدور والجدوى.

فشل المحاولة هو بلا شك خطوة الى الوراء، حتى بمعايير التفاوض السورية نفسها التي سبق ان شهدت لقاءات مباشرة حول طاولة واحدة او في قاعة واحدة لقاءات رسمية معلنة بين النظام وبين معارضيه، سواء في جنيف نفسها او في غيرها من العواصم المعنية بالبحث عن حلول للازمة السورية.. فضلا عن انه انتقاص من مرجعية قرارات الامم المتحدة لا سيما قرار مجلس الامن الاخير الرقم 2254، الذي كان غطاء شرعياً لجنيف 3، فصار يمكن من الان فصاعداً اعتباره لاغياً، او على الاقل غير ذي شأن.

لكن أهم ما في هذه الإنتكاسة الحالية انها تثبت مرة أخرى التواطوء الشديد بين الاميركيين والروس، الذي كان وسيبقى من أكبر عناوين الازمة السورية وأدق عناصر إستمرارها لسنوات خمس، مع أنه كان يمكن ان تنتهي في عامها الثاني او الثالث الى تسوية معقولة، تحول دون انحدار سوريا الى هذا المستوى من العنف والارهاب والتشدد. لكن السوريين على اختلافهم أساؤوا فهم ذلك التواطوء وتوصلوا في جنيف 3 خاصة الى الاستنتاج بان النصر العسكري ما زال حليفهم وما زال خيارهم الوحيد.

الانتكاسة الاخيرة لمساعي السلام تخفف العبء السياسي (والاخلاقي اذا جاز القول) عن الاميركيين والروس الذين بامكانهم القول اليوم انهم حاولوا جر السوريين الى التفاوض ولم يفلحوا، وسعوا الى اقناعهم بوقف النار وبعض اجراءات الثقة الانسانية المتبادلة ولم يلقوا آذاناً صاغية من الجانبين. ولعل هذا هو جوهر جنيف 3، ومغزاه الوحيد حتى الان، الذي لا يبدو مجافياً للواقع او متعارضاً مع معطياته الميدانية الاخيرة.

وبهذا المعنى كان جنيف3 بمثابة مذكرة استدعاء للنظام الذي إستعاد قوته وصلفه بفعل الحملة العسكرية الروسية الضارية، وكان بمثابة مذكرة جلب للمعارضة التي كانت الارض ولا تزال تميد تحت اقدامها. لكن الجانبين أدركا أنهما باتا أبعد من أي وقت مضى   عن التفاوض الذي يبدو بالنسبة الى النظام تراجعاً، وعن الحل الذي يبدو بالنسبة الى المعارضة إستسلاماً. وهكذا ظلا خارج القاعة العامة، يتسقطان اخبار الميدان التي لا توحي بان وقف النار ممكن على أي من خطوط التماس السورية.

صحيح ان المعارضة، التي شعرت بالانكشاف والعزلة حتى عن أقرب حلفائها، القلائل أصلا،  اتسمت بقدر كبير من الجرأة في رفضها الدخول الى قاعة التفاوض، قبل ان يستجيب الطرف الاخر لمطالبها الانسانية البسيطة، لكن المحصلة النهائية لتلك المحاولة خدمت مصلحة النظام وهي ستساهم في إطلاق يده وفي تحرير شركائه الروس من مسؤولية دفع الحملة العسكرية الى حدود لم يسبق لها مثيل.

  لم يكن جنيف 3 مناسبة للتشكيك بالانتداب الروسي على سوريا، الذي صيغ بمعاهدة رسمية وقعت مع النظام في شهر آب أغسطس الماضي، لعله كان فرصة لاكساب ذلك الانتداب شرعية دولية إضافية، ولمنح الخيار العسكري والسياسي الروسي مهلة جديدة لإنهاء الازمة السورية من دون الرهان على تسوية تخرج من قاعات التفاوض المقفلة.