حزب الله في وضع غير مريح حتماً. لكنه ليس وحده من يعاني من إزعاج تموضعه في المشهد السياسي اللبناني. بلا أكاد أقول أنه بين الاقل إنزعاجاً، وسط ارباكات كبيرة على مدى الطيف السياسي برمته وتحديداً ما كان يعرف بقوى الرابع عشر من آذار.

فرئيس الحكومة الاسبق سعد الحريري فاوض الجنرال ميشال عون طويلاً حول الرئاسة، وكاد أن يسير به مرشحاً لو نجح عون في إنتزاع قبول القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع به. والمذكرات، لو قيض للعارفين كتابتها ونشرها، ستكشف عن محاولات تفصيلية قام بها الحريري لرأب الصدع المسيحي الاعمق في تاريخ العلاقات اللبنانية اللبنانية، من دون توفيق. رفض جعجع حتى مجرد التفكير في عون، فيما كان، على ما نعلم الآن، يحاور الرابية بموازاة التشدد حيال اقتراح الحريري بالسير بالجنرال!! ومثل ذلك نعلمه عن حوار القوات مع الوزير سليمان فرنجية حول الرئاسة، فيما كان يرفض رفضاً قاطعاً بحث هذا الاحتمال مع الحريري!!

اليوم يجد الحريري نفسه أمام إنقلاب الآية، حيث سار جعجع بعون، فيما رئيس المستقبل يمضي بترشيح سليمان فرنجية، من دون أن ينجح المستقبل جدياً، حتى الان، بتقديم تبرير مقنع لعدم سيره بعون اليوم، بعد أن عاد جعجع ووافق على إقتراح الحريري الأصلي بترشيح عون؟ الم يتحقق الشرط الذي ملأ الاعلام والدنيا وشغل الناس: “تفاهم يا جنرال مع الحكيم لنعلن ترشيحك”؟؟ لماذا بات ترشيح عون اليوم، هو تسليم للبلد الى إيران، ولم يكن كذلك يوم حاوره المستقبل وأبدى إيجابية حيال إحتمال إنتخابه رئيساً للبلاد؟ لا شك أن المسائل أعقد من ذلك. ولا شك أن الحوار مع عون لم يزحزح الجنرال أنملة عن ثوابته، ولا شك أن وصوله للرئاسة سيعني وضع عدد كبير من الملفات والقرارات بيد الوزير جبران باسيل، الذي لا يملك أي حيثية تحميه سوى التصاقه التام بتوجهات حزب الله! فهو ليس الوزير سليمان فرنجية الذي يتمتع بقاعدة إجتماعية ومناطقية صلبة، أياً بدا حجمها الواقعي صغيراً، في مقابل الحجم “غير الواقعي” للحالة العونية، المعتمدة اعتماداً مباشراً على التصويت الشيعي!! كل هذا صحيح لكن الإنطباع في السياسة، كما في كل شيء تقريباً، هو الحقيقة!! والانطباع، وليس الحقيقة بالضرورة، أن الصراع بين الحريري وجعجع هو في أساس وصلب قرارات الرجلين، وصراعهما على اليد العليا في تقرير إسم ساكن قصر بعبدا، وليس منسوب “الثامن آذارية” في دم أي من المرشحين!

لا يبدو جعجع أقل إرباكاً من الحريري! فهو في لحظة تخيله أنه إنتزع صفة “التحدث بضمير الحركة الاستقلالية” وصورة “الصلب والثابت” الذي يكون “حيث لا يجرؤ الآخرون” (بالمناسبة هذه عبارة استهلكت كثيراً)، في هذه اللحظة تماماً، وضع نفسه عملياً في لحظة تقاطع انتخابي وربما أكثر مع حزب الله! فبعد خطاب أمين عام حزب الله الأخير، الذي لم يترك اي التباس عن اطمئنان حزب الله لعون، سارع جعجع لتجديد محاولة احراج حزب الله عبر القول لنصرالله، “إذهب للإنتخاب إن كنت تظن أنك في موقع المنتصر بإيصال أي من حليفيك”!! وأعاد بشكل فج دعوة حزب الله للضغط على حلفائه لتبني ترشيح عون مستذكراً (يا للهول!!) القمصان السود التي اتت بنجيب ميقاتي رئيساً للحكومة!! ويكاد المرء يظن أن “الحكيم” خانته الحكمة حين بدا، من حيث اراد او لم يرد، في موقع التحريض على مناورة قمصان سود جديدة، في مواجهة وليد جنبلاط ونبيه بري هذه المرة، للإتيان بعون رئيساً!! كل ذلك لإثبات أن حزب الله محشور وأنه لا يريد عون أصلاً، وهي حجة رفضها جعجع سابقاً حين سوقت له!

الواقع أن نصرالله كان صادقاً في عرضه حين قال إن إنتخابات الرئاسة باتت محسومة على قاعدة رئيس من الثامن من آذار وأن حزب الله، ليس واقعاً تحت أي ضغط حقيقي لإنتخاب رئيس الآن والتراجع عن تعطيل الاستحقاق وفق المعادلة التي اكد عليها، “لنتفق على عون ونذهب لإنتخابه”! فلا الرأي العام اللبناني يشكل مصدر إحراج لحزب الله، ولا الموقف الدولي يبدو معنياً الى الحد الذي يضع الرئاسة على نار حامية، والاهم أن أياً من حليفيه المسيحيين، لا سيما عون، في وارد التشكيك بصدق موقف حزب الله والتزامه الجاد بترشيح عون! هنا الاساس، وكل البقية تفاصيل.

نعم حزب الله هو من يعطل الاستحقاق لأنه ينطلق من قاعدة الغاء مؤسسة البرلمان، ويرفض الافراج عن نصاب الجلسة ما لم يتم الاتفاق مسبقاً على إسم الرئيس! فعلها في الدوحة قبلاً وتشارك في فعلها مع بشار الاسد يوم قرار التمديد لإميل لحود عام ٢٠٠٤ وكانت كل القوى السياسية، بدرجات متفاوتة ولاسباب مختلفة، شريكة له في إهانة البرلمان! 

هو يعطل، لكن بوسعه أن يستمر في الاحتفاظ بورقتيه. الالتزام مع عون من دون المغامرة في البحث عن “خطة ب”، وخسارة الاختراق الذي حققه لدى الرأي العام المسيحي، ومن جهة ثانية تدليل فرنجية واعطائه حقه ووضع حد لمناخ الإساءة اليه، وطرحه ضمناً “كخطة ب” سيحين وقتها إما حين يغيب الجنرال الثمانيني عن مسرح السياسة او يقرر التقاعد!

لا شيء يربك حزب الله الا اذا انتبه عون أن الوقت لا يلعب لصالحه، وأن ما يستطيع نصرالله انتظاره لا يملك عون حياله ترف الزمن! الجنرال، كان مدوياً في صمته بعد خطاب نصرالله، في مقابل “ردية” فرنجية! 

وحده عون يربك حزب الله اذا تكلم. حتي هذه اللحظة هو يترجح بين اعلان “التكامل الوجودي” مع نصرالله وبين الصمت حيال تجديد نصرالله “الالتزام الاخلاقي والسياسي والعاطفي” بترشيحه للرئاسة. وهذان حدان لا يربكان حزب الله ولا يضغطان عليه للتقدم خطوة من حيث يقف!

إنصافاً أقول أنه كان يمكن للتسوية أن تكون، كما أريد لها، ممراً لإعادة ترميم هيكل الدولة اللبنانية، وتنظيم الصراع السياسي داخل النظام، لكن ثمة ما حصل وجعلها تصبح عبوة، فجرت “عن قرب” بالمشروع السياسي للحركة الاستقلالية.