يحور اللبنانيون حول نقطة: تراكمت مشكلاتهم، بشكل يتكثف مشهدية ومعنى مع تراكم الاستعصاءات في ملف النفايات، وتعددت أوجه أزمتهم، النظامية بل الأهلية بل الكيانية، الى الدرجة التي صارَ فيها أي تناول جزئي، موضعي، قطاعي، تقني، لجانب دون آخر من جوانب الأزمة، «مثل قلته»، يتطاير زبداً هذا إن سبق الزبد بعض مؤثرات ابهار، وفي أحيان كثيرة، هو زبد لم يسبقه ابهار، وكلام وعظي يتكرر، ولو حسّن الوعظ اختيار المصطلحات التقنية الواجبة. في الوقت نفسه، وبالدرجة نفسها التي صار متفقاً فيه «ضمناً» بأن مشكلاتنا تراكمت الى درجة صار حلها شمولياً يكون أو لا يكون، فإنّ هناك قناعة «ضمنية» موازية، بأنّ أي بحث عن حلول جذرية لأزمة النظام والمجتمع والكيان سيصب رأساً في صندوق مصالح «حزب الله»، هذا الحزب المستفيد في الوقت نفسه من مكابرة المهونين من حدة وجذرية الأزمة اللبنانية، ومن «النتعات» الاصلاحوية الفاقدة لشروطها.

لكن «حزب الله» ليس المشكلة الوحيدة في هذا البلد، وهنا بيت القصيد. العلاقات بين الطوائف غير سليمة، سياسياً على الأقل، وبالتأكيد ليس سياسياً فقط، وهذا لا يختزل الى مشكلة «حزب الله» وحدها. الحزب يستفيد من الخوف في طرح هذه المشكلة، مثلما سيستفيد حتماً من كل طرح انفعالي، متوتر لها، من كل طرح يصنف الطوائف بين من هي على حق وبين من هي على ضلالة، ويصنف زعماء التيارات الراجحة في الطوائف بين من أعطي الحكمة وبين من كان الحظ حليفه الى آخر مثل هذه التصنيفات التي تشوه لوحة القراءة أكثر مما هي مشوهة بتعقيدات التركيبة اللبنانية نفسها، ومنسوب الرياء المعجونة به هذه التركيبة.

العلاقة بين الطوائف غير سليمة في لبنان. لا يختزل الأمر بالمشروع الهيمني الفئوي الذي يقوده الحزب. الحزب يتغذى من هذه العلاقة غير السليمة ومن الخوف من طرحها. ويرث بهذا الوصاية السورية التي تغذت من الشيء نفسه.

اليوم، من جهة، صحيح، هناك مشكلة تتمثل في كيفية ان تختار كل مجموعة لبنانية ممثليها، وأن يقام العدل بين المجموعات في السياسة مثلما يقام العدل بين الأفراد المواطنين في القانون، نظرياً طبعاً (وحالة ميشال سماحة لا تشجع). وهناك، «على يسار» المعطى الأول، رأي مخالف يقول بأن العدالة بين الجماعات الطائفية وهم تختلقه التيارات الطائفية لتعطيل العدالات الاخرى، كالعدالة القانونية، والعدالة الاجتماعية، والعدالة الجندرية. وهناك على «يمين» هذا المعطى الأول، رأي يقول بأن الحل يكون بأن تختار كل طائفها حصتها المعطاة لها في مؤسسات الدولة كما لو كانت الطائفة ولاية قائمة بذاتها في نظام فدرالي. ثم هناك من يخلط بين المعايير وفقاً لمصلحته أو هواه أو تحسسه للمناخات المحيطة بلبنان، أو يسوّغ لنفسه ما لا يبيحه لسواه. بشكل عام، الكل غير قادر على الذهاب بشكل كامل الى تطبيق مبدأ «المعاملة بالمثل» أو «الرسيبروسيتي». لكن هذا التعميم لا يلغي التفاوت بين درجة ابتعاد كل قوة عن مبدأ «المعاملة بالمثل«.

كل الجماعات تشعر بأن هناك شيئاً ما غير عادل يجري بحقها. كل الجماعات تصعد هذا الشعور، وتصعد معه شعور .. باللاسنية هنا، واللاشيعية هناك، والمارونوفوبيا أنى دعت الحاجة، وهكذا.

لكن الجماعات تصعد عناصر واقعية، حقيقية، ولا تختلق من عدم كل شيء. من دون وعي ذلك، من دون تعميم الاعتراف بأن العلاقات بين الطوائف «باتت» غير سليمة وغير سوية وغير «مصرّح عنها»، الا عندما يستعاض عن التصريحات بنوبات الانفعال ورهاب الآخر، أو الآخرين، لا يمكن التقدم خطوة واحدة الى الأمام.