المبادرة الرئاسية التي أطلقها الرئيس سعد الحريري كانت تستهدف إيصال النائب سليمان فرنجيه إلى رئاسة الجمهورية في مقابل تفاهمات عدة. لكن الدعم الذي تلقته من أميركا والفاتيكان وفرنسا، ومن المملكة العربية السعودية كان هدفه تحريك ملف ملء الشغور الرئاسي في لبنان، وليس إيصال شخص معيَّن إلى قصر بعبدا. علماً أن ذلك لا يعني موقفاً سلبياً من فرنجيه. هذا الهدف تحقق يقول متابعون لبنانيون للملف الرئاسي. فهو قد فُتح، ولن يُغلق مرة أخرى، رغم أن النجاح في انتخاب رئيس جديد للجمهورية قد يحتاج إلى أشهر نظراً إلى الظروف الإقليمية الصعبة. وينطلق هؤلاء من معلوماتهم والمعطيات للـتأكيد أن فرنجيه خسر فرصته الرئاسية وانضم بذلك إلى الزعماء الموارنة الأقوياء العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع والرئيس أمين الجميل، الذين سبق أن خسروا فرصتهم العملية للوصول إلى الرئاسة رغم استمرار "عميدهم" عون في اعتبار نفسه مرشحاً قادراً على الوصول إلى قصر بعبدا، جرّاء تمسّك "حزب الله" به، وجرّاء تحسّن أوضاع حلفائه الإقليميين وفي مقدمهم سوريا بشار الأسد.
ويستندون إليها (أي المعلومات والمعطيات) ليدعوا رُباعي الأقطاب الموارنة إلى الإقلاع عن الاعتقاد أن الظروف الرئاسية لكل منهم ستتحسن داخلياً وإقليمياً. ذلك أن الصراع الكبير في المنطقة مستمر وهم جزء منه. وهو يشمل لبنان أيضاً وإن سياسياً وأحياناً أمنياً، ولا شيء يمنع أن يشمله عسكرياً أيضاً إذا لم يحسن زعماؤه التصرّف، وإذا لم يتخلوا عن نهجهم المزمن القائم على تغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة. والسنة الجديدة التي بدأت الأسبوع الماضي يبدو أنها ستكون حامية جداً على الصعيد الإقليمي، وأن حماوتها قد تطال لبنان إذا لم يتدارك عقلاؤه ذلك. هذا إذاً بقيَ فيه عُقّال. وأفضل شيء يفعله هؤلاء هو التوافق فيما بينهم أولاً ومع الزعماء المسلمين من سنة وشيعة ودروز، وفي مقدمهم زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري ورئيس حركة "أمل" نبيه بري و"حزب الله" والزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط والمرجعيات الدينية الأولى وفي مقدمهما البطريرك الماروني بشارة الراعي، الاتفاق على مرشح توافقي لرئاسة الجمهورية قادر بكفاءاته العلمية والسياسية وعلاقاته الإقليمية والدولية في حال وجودها على إدارة الأزمة اللبنانية التي تكاد أن تصبح مستعصية على الحل، وعلى تلافي انزلاق لبنان الى حرب أهلية، وعلى الصمود ريثما ينجلي غبار الصراع في المنطقة، وعلى تأمين مصالح المواطنين وحاجاتهم الحياتية والمعيشية وإن في حدها الأدنى. وهذا الأمر ممكن على رغم صعوباته الكثيرة. ذلك أن "حزب الله" الذي أحبط المبادرة الرئاسية للحريري المباركة دولياً وسعودياً، والمشارك فيها أقطاب لبنانيون أبرزهم بري وجنبلاط، ليس في نيته إبقاء سدة رئاسة الجمهورية شاغرة الى حين نضوج ظروف انعقاد مؤتمر تأسيسي يعيد النظر في اتفاق الطائف رغم عدم رضاه عنه، كما يتهمه كثيرون. فهو مع تسوية وطنية تشمل الاتفاق على رئيسي جمهورية وحكومة وأعضائها وعلى قانون انتخاب، كما قال إمينه العام السيد حسن نصرالله. ولم يغيّر موقفه. ومبادرة الحريري أقلقته لأنها تقريباً كانت من وراء ظهره ولم تكن نتيجة حركة لبنانية بل حركة خارجية "فئوية" إذا جاز التعبير، لذلك مُقلقة. ومن الضروري أن يحاول المشكِّكون في موقف "الحزب" تجربته ليتأكدوا إما من صدق موقفه أو من صحة شكوكهم. والعارفون يعتقدون أن له مصلحة أساسية في إبعاد شبح الفتنة المذهبية العنفية بل العسكرية عن لبنان، ويعتقدون أن التفاهم معه ممكن إذا تحقق أمران، الأول عدم السعي الى استدراجه الى تسوية تؤذيه و"شعبه" لاحقاً. والثاني عدم استغلاله قوته المحلية والاقليمية لإقامة وضع لبناني يعتبر المسيحيون أو نصفهم والمسلمون السنّة أو غالبيتهم أنه يكرّس هيمنته على البلاد.
في أي حال يبقى المثل اللبناني "من جرّب المجرّب عقله مخرّب" صالحاً في حال لبنان اليوم. فالأقطاب الموارنة الأربعة كلّهم مجرّبون سواء في موقع الرئاسة أو الزعامة الحزبية والميليشياوية والعسكرية. واللبنانيون يحصدون اليوم ما زرعته أيديهم، ولذلك فإن المصلحة المسيحية واللبنانية تكمن في اختيار شخص غير مجرّب بهذا المعنى. علماً أن لا ملائكة في لبنان، وأن غير المجرّبين اصطف معظمهم مع هؤلاء وغيرهم أعواماً عدة. طبعاً لا يعني ذلك أن الزعماء المسلمين ليسوا وبنسبة مهمة مثل الزعماء المسيحيين الأربعة، لكن المشكلة اليوم شغور رئاسة الدولة التي يشغلها ماروني. لذلك لم نتكلم عن "مآثرهم" العنفية والميليشياوية.