التاريخ في لبنان يكتب بالتوافق، حاله حال أي إجراء سياسي أو قانوني يتم في هذا البلد، وبسبب لعنة التوافق تضيع الحقائق وتنسخ الأحداث. من الصعب قراءة تاريخ لبنان بموضوعية وعلمية صرف، فكل حكام لبنان "أبطال" و "مقاومون" و " وطنيون" و "أحرار". وفي نفس الوقت هم على العكس تماما كلهم "خونة" و "عملاء" و "فاسدين" و "أتباع".

تناقض يمكن تفسيره بإختلاف وجهات النظر حول تحديد المعايير المطلوبة للتصنيف والتوافق الملعون من أجل حفظ المصالح المشتركة. وعندما يصل النقاش إلى مستوى تحديد الحالة الوطنية في لبنان، تختلف الهويات لإختلاف المعايير. الوطنية كما تعرف في عالم السياسة هو الولاء النهائي للوطن في كل عمل يقوم به أي شخص أو حزب وحركة وتيار يتصدون للشأن العام. فمعيارها واضح هو مصلحة الوطن المختصرة بجغرافيا معينة وسيادة محددة وولاء واضح لا يشوبه شك أو تردد وتقوية الدولة. وعندما ننظر إلى تاريخ لبنان نرى نماذج جسدت الحالة الوطنية ودفعت ثمن هذا التجسيد. يطالعنا التاريخ القديم للبنان بنموذج للحالة الوطنية،   هو الأمير فخر الدين الثاني الذي أسس إمارة وصلت حدودها إلى فلسطين وقلبها جبل لبنان. كان فخر الدين ذا رؤية وطنية تحررية من السلطنة العثمانية وإستطاع لمدة من الزمن تأسيس إمارة قوية مستقلة قبل أن تسقط بعد قتله.

لم يسع فخر الدين إلى إستبدال محتل بمحتل ، بل إستعان بالخارج وخصوصا توسكانا لمساعدته على بناء دولته القوية المستقلة ذات العلاقات الندية مع جميع دول العالم، فكان همه وطنه وجسد الحالة الوطنية برؤيته الإستقلالية عن السلطنة العثمانية في جميع شؤون الإمارة وطموحه القوي لبناء الإمارة القوية ومشروع التنمية الإقتصادية والإجتماعية والثقافية الذي تبناه بجعل إمارته ملتقى الحضارات وتسامحه الديني مع جميع الطوائف إلى حد أن اليوم معظم الطوائف تقول بأنه كان ينتمي إليها. فشهادة الطوائف هي دليل تاريخي وحالي على أنه حالة وطنية مرت على بلادنا. أما في تاريخنا المعاصر، نرى نماذج جسدت أيضا الحالة الوطنية، منهم الرئيس فؤاد شهاب والسيد موسى الصدر  والمعلم كمال جنبلاط والرئيس رفيق الحريري.

هؤلاء الأربعة ساهموا في تكريس الولاء الوطني وتجسيد الحالة الوطنية بحداثتها. كلهم حملوا هم الوطن لا هم الخارج، ودعوا إلى بناء الدولة القوية، وإستثمروا علاقاتهم الخارجية للإستثمار في بناء مشروع دولة حقيقي. فالرئيس شهاب رافع لواء المؤسسات التي أنشأت بمعظمها على أيامه وكانت شاملة للجغرافيا والطوائف. والسيد موسى الصدر الذي حمل هم الحرمان ببعده الوطني لا الطائفي فكان كسهم أمل كسر أصنام الولاءات التقليدية والإقطاعية لصالح الولاء للدولة القوية وتبنى العمل المؤسساتي كوسيلة لرفع الحرمان وطرح شعارات مطلبية ودفاعية لكنه كان يتراجع عن بعضها عندما يراها تهدد سلطة الدولة.

فتراجعه هو إثبات جدي على إيمانه بضرورة الدولة. والمعلم كمال جنبلاط الذي تتشابه تجربته مع الإمام الصدر من خلال تبني المطالب الشعبية والعمل على إنشاء كيان لبناني لا يحكم من الخارج بل مستقل وحر ويتمتع بعلاقات طبيعية مع الجميع. لم يكن موقف كل من السيد موسى والمعلم كمال جنبلاط إتجاه القضية الفلسطينية في يوم من الأيام على حساب المصلحة الوطنية ولم تكن علاقاتهم مع الخارج ضد لبنان بل من أجل لبنان. فشعاراتهم لم تكن لطائفة بل لوطن.

أما الرئيس رفيق الحريري فمشروعه الإقتصادي ذات البعد الوطني والذي بدأ من قلب بيروت المهدمة وإنطلق إلى مناطق لبنان كان وسيلته لتقوية الدولة وتثبيتها. خاض صعاب وكانت علاقته بالخارج قوية لكنه لم يطرح مشروعا دينيا أو مذهبيا ضيقا لجماعته بل مشروعا وطنيا واضحا. هؤلاء الأربعة نماذج حية نجحوا وفشلوا لكنهم كانوا يمتلكون هدفا هو بناء دولة قوية وولاء واضح للوطن.

لكن لماذا كلهم بإستثناء الرئيس شهاب قتلوا وخطفوا؟ لماذا كل حالة وطنية تخلق في لبنان مصيرها القتل أو الخطف أو التشويه؟ ولماذا الأحزاب والتيارات التي تمتلك مشاريع غير وطنية تنجح في لبنان؟ولماذا تم القضاء على الحالة الشهابية؟ أسئلة وجودية عن وطن يبحث عن ولاء حقيقي، فلبنان في لعبة الأمم هو صندوق بريد لرسائل الشرق الأوسط، ووجود حالة وطنية يعني إقفال وتدمير الصندوق، فلكي يبقى صندوقا يجب أن تموت فيه الحالة الوطنية ولكي تموت يجب سحق الدولة لصالح الدويلات.

وطن يبحث عن أبناء حقيقيين في مخاض التاريخ والسياسة، يبحث عن قيامته وسط موت وطني وتعجرف مذهبي ووحشية دينية جعلت الحالة الوطنية في لبنان خيانة وعمالة وإرهاب. في قاموس مصطلحات الحاضر السياسي اللبناني تسقط الحالة الوطنية وتفوز المارونية والسنية والشيعية والدرزية. فالحالة الوطنية تعني دولة قوية والدولة القوية تمارس السيادة بكافة أشكالها وتقضي على منظومات الفساد والمصالح وتحرر ذهن المواطن من سجن الولاءات الضيقة ليسبح في فضاء الوطنية فينكسر حينها حاجز التبعية للزعيم وينمو الولاء للدولة وحينها يصبح الزعيم بحاجة إلى المواطن لا العكس.

الحالة الوطنية تعني تغير بنية العلاقات داخل الوطن من حالة زعيم ينتهج سياسة تجويع الشعب لكي يبقوا أتباع له ومصيرهم ووجودهم متعلق بشخصه وبحاجة له ولعطفه إلى حالة يكون الزعيم أو ممثل الشعب في وضع يبحث فيه عن أفضل الطرق لإرضاء الشعب لأنه يدرك مسبقا بأن الولاء الوطني للشعب يخوله البحث عن بدائل. فنقطة البحث هنا أن الشعب يتخلص من إبتزاز الزعيم  وينتخب الشخص حسب مشروعه التنموي والخدماتي لا بناءا على هوية ومذهب الزعيم.

لذلك إتبع حكام لبنان منذ القدم سياسة تخويف الشعب من خلال زرع أفكار الخوف من الشريك في الوطن وعدم خلق مناخات للثقة بين أبناء الوطن وإخترعوا مفهوم التعايش والعيش المشترك كشماعة للتوافق بين هؤلاء الحكام لإدارة مصالحهم وصفقاتهم على حساب الشعب. وعندما يتصارعون يتناسون التعايش وشعارات العيش المشترك ويقاتلون بعضهم البعض بالفقراء المساكين من الشعب الذين زرعوا في أذهانهم أنهم يقاتلوا من أجل وجود طائفتهم ولا يدركوا أنهم يقاتلوا من أجل تحسين شروط زعيمهم لتقاسم غنائم السلطة.

قدر بلد متوقف عن النمو الطبيعي ضمن مسار صحيح إلا إذا وجدت حالة وطنية ، فإذا لم يوجد حالة وطنية علينا أن نخلق حالة وطنية لأنها حاجة وجودية وطنية وهي الخطوة الأولى في مسار الألف ميل نحو التغيير.  

بقلم : هلال رميتي.