قال الله سبحانه وتعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)...
نعيش في أجواء ذكرى ولادة نبي الرحمة وإمام الهدى وقائد الخير ومفتاح البركة.. الصادق القول والبر الأمين محمد بن عبد الله(ص).
وتتزامن هذه الذكرى المباركة هذا العام مع ولادة من بشّرت به الملائكة عن ربّ العالمين: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ).
وهذا التزامن بين الولادتين على مستوى الشكل، ينبغي ألا يعني أنه لقاء متباعدين، وإنما ينبغي النظر إليه كلقاء الأخوة، كما في قولٍ لرسول الله(ص): «أنا أولى الناسِ بِعِيسَى بنِ مريمَ في الدنيا والآخرةِ، ليس بَيْنِي وبينَهُ نَبِيٌّ، والأنْبياءُ أوْلادُ عَلَّاتٍ ـ اخوة من أب واحد وأمهات متفرقة ـ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى، ودِينُهُمْ واحِدٌ».
في أجواء المناسبتين، سنتوقف عند حديث بات يتردّد اليوم كنتيجةٍ لحال الفوضى والقتل الّذي يشهده العالم العربي والإسلامي، ويؤدّي إلى وضع الإسلام والمسيحيّة في إطارين متباينين ومختلفين لا رابط بينهما.. فالسيد المسيح، ومن ورائه الديانة المسيحيّة، تؤطَّر عند هؤلاء بنظرة واحدة، هي التسامح لحدّ جلد الذات.. وتعبير ذلك، ما نسب إلى السيد المسيح (ع): «مَن ضربك على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر»، متغافلين عن منهجه الآخر في التّعامل مع القضايا السياسية والاجتماعية...
وفي المقابل، يُصوَّر الإسلام بأنّه دين الفظاظة والقسوة والعنف، ويُشاع لإثبات ذلك التركيز على آيات السّيف والحرب والقصاص. إنّ الاقتصار على هاتين المقاربتين للنّظر إلى كل رسالة سماوية: مسيحيّة أو إسلامية، فيه ظلم وإجحاف، فمن غير المقبول أن تكون المقابلة أحادية، والمنهج يجب أن يكون شموليّاً..
فحصر السيّد المسيح بصورة الرحمة والمحبة فقط، من دون إبراز الأدوار الأخرى، هي صورة مجتزأة، فالمسيح (ع) هو داعية عدل وإصلاح، وصاحب موقف تغييريّ، فهو لم يهادن ظلماً ولا عدواناً...
وهو الّذي عانى مع كهنة الهيكل اليهود الّذين كانوا يستغلّون الدّين لحساب مصالحهم الخاصّة، ويحوّلون المعبد إلى مركز تجارة، فواجههم وفضحهم وطردهم من المعبد، واستعمل سوطاً ليجلدهم، وكانت كلمته: أخرجوا اللّصوص من الهيكل. وهو الذي كان موقفه واضحاً من ظلم الحاكم والمحكومين وهو القائل: «بحقّ أقول لكم، إنّ الحريق ليقع في البيت الواحد، فلا يزال ينتقل من بيت إلى بيت حتى تحترق بيوت كثيرة، إلا أن يُستدرك البيت الأوّل، فيُهدم من قواعده، فلا تجد فيه النّار مَعملاً، وكذلك الظّالم الأوّل، لو أُخذ على يديه، لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمون به، كما لو لم تجد النّار في البيت الأول خشباً وألواحاً لم تحرق شيئاً».
أما منطق وصم الإسلام بصفة الحرب والقسوة وغيرها، فهذا من الظلم، إذ يتمّ تجاهل محطات مشرقة والقفز فوقها، وهي محطات كثيرة موجودة في كتب التاريخ والتراث على اختلافها، والكلّ يذكر كيف عاد الرسول فاتحاً مكّة بجيش جرّار للقاء أعدائه، وما إن دخل مكّة حتّى سامحهم، وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».. هذه الصّورة تحديداً، لا يمكن أن تتكرّر عبر التاريخ، فهي صورة تختزن كلّ معاني الرّحمة: فاللّقاء بين قويّ قادر، وعدوّ لدود مهزوم، هي فرصة للانتقام والتّنفيس والحساب، إلا أنّ رسول الله حوّلها إلى صورة للتّسامح والرحمة.. هذه الصّورة مثلاً لا يتمّ تداولها، فيما تظلّ صورة السّيف التي اضطرّ رسول الله لحمله للدّفاع عن وجوده ورسالته، هي الأبرز فيما يتمّ وصف الإسلام به.
نعم، قد يُطرح السؤال، وهو مشروع: لماذا لم يحمل السيّد المسيح السّيف كما حمل رسول الله (ص) السّيف؟ والجواب يعود إلى طبيعة الظروف المختلفة، فالسيف لم يكن الوسيلة الواجبة التي يستخدمها الأنبياء، هم كما أشار إليهم الله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}.. السّيف لا يُستعمل إلا عندما يكون هو الحلّ الوحيد لمواجهة الظلم. وعندما ندرس الظروف التي كانت في حياة السيّد المسيح، نراها مختلفة، فقد عاش السيد المسيح في ظلّ الإمبراطورية التي كانت تُمسك بزمام السيطرة على كلّ مناطق نفوذها، وخصوصاً على فلسطين، لذا ما كان السيّد المسيح، وهو الذي لا يمتلك من الأصحاب إلا القلّة، يرى استخدام السّيف مجدياً، بل بقي يتنقّل بين النّاس يدعو إلى الله بالموعظة والقصّة والفكرة، وبالمعجزة إذا اقتضت المصلحة.
النبي (ص) اضطرّ لحمل السّيف، فالقوّة كانت ضرورية، لا لتبليغ الرسالة والضّغط على الناس لقبولها، بل لإزالة الحواجز من أمامها، وللتصدي لحروب الآخرين عليه، والتي كانت إلغائية، فهو لم يحاربهم ليدخلهم الإسلام عنوة تحت حدّ السيف، ولا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن يُزرَع الإيمان في القلوب بواسطة القهر أو الغلبة أو الفرض، فلا إكراه في الدين.
أمّا ما يتحدث به بعض المنظّرين عما نشاهده في الواقع، والذي يتَعَنْوَن بعنوان الإسلام، فإننا نحيله على كثيرٍ مما جرى في التاريخ القريب، مما جرى تحت عنوان المسيحيّة، حيث شهدنا حروباً طاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت، ارتكبت خلالها الفظائع، وحتى الحروب تحت عناوين لا دينيّة أيام الشيوعية والستالينية، فضلاً عمّا جرى تحت عناوين توسّعية خلال الحربين العالميّتين الأولى والثّانية، اللتين سقط فيهما من الضّحايا حوالى أربعين في المئة من سكان أوروبا وأميركا، وما حصل من إبادةٍ للملايين من الهنود الحمر في أميركا، ومن تشريد الملايين من الشعب الفلسطيني. وهذا لا يعني أن نبرّر الفظائع التي تجري في واقعنا، فهذه لا تبرير لها، ولكن ما نودّ قوله هو: دعونا لا نحمّل المسيحيّة والإسلام ارتكابات التّاريخ والحاضر. فالمسيحية والإسلام براء من كلّ ذلك.
إن ذكرى مولد نبيّ الرّحمة وميلاد السيّد المسيح، هي مناسبة لنا جميعاً كي نتوحّد حول قضايانا التي تؤرقنا، والتي تتعلق بالإنسان المقهور ومعاناته، وبالظّلم المحيط والمستشري.. نفعل ذلك بلغة المحبة والرحمة والتّسامح، ونعدّ أيضاً ما استطعنا من قوّة لردع مشاريع الإلغاء والإقصاء، ليستعيد الإنسان حريته وحقوقه وكرامته.