هناك مَن اعترَض في مجلس الوزراء على الصفقة. لكنّ العجيب أنّ مقولة الإجماع المطلوبة، في غياب رئيسٍ للجمهورية، تمّ تجاوزها بلا ضجيج. لقد أصدر الأقوياء «أمراً عسكرياً»: «نفِّذ ثمّ اعترِض!» عندئذٍ، لا مشكلة في الاعتراض... فقد فات الأوان؟ إستطاع الطاقم السياسي في لبنان أن يُقنع المؤسسات الدولية بأن لا خيار آخر في ملف النفايات سوى الترحيل موقتاً، لـ18 شهراً، لضرورات بيئية وصحية، وبعد ذلك سيكون الحلّ العلمي الذي تطالب هذه المؤسسات باعتماده قد نضج. والحل العلمي معروف، وهو إنشاء المعامل التي تحوِّل النفايات إلى طاقة.

وهذه المؤسسات أطلقت وعوداً للمسؤولين اللبنانيين بتمويل إقامة هذه المعامل ضمن خطة إصلاحية شاملة. لكنّ الطاقم السياسي يتهرَّب منها لأنّ أي رقابة دولية على القطاع ستعني انقطاع دوامة الفساد التي يعتاش عليها هو وأزلامه.

وكانت المؤسسات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهيئات تنموية أوروبية وأميركية، أبلغت لبنان أنّ من الخطر على مالية الدولة أن تعتمد ترحيل النفايات لأنه يُهدّدها بالإفلاس. فالدولة التي تترنّح والعاجزة عن إعطاء الموظفين والعسكريين حقوقهم في سلسلة الرتب والرواتب لا يمكنها هدر الأموال للتخلص من النفايات.

لكنّ الطاقم السياسي الذي يستفيد معظم أقويائه من تقاسم جبنة النفايات منذ 17 عاماً وجَد سبيلاً إلى التمديد للفساد لمدة أطول، تحت شعار «الضروري والموقَّت». وهو وضع الجميع أمام خيارين: إمّا الغرق في النفايات بلا أفق، وإمّا التمديد للفساد.

وهكذا، وفيما يجري إنهاك الرأي العام بالصّفقة المزعومة حول رئاسة الجمهورية، وفيما الجميع منشغل وتنتابه الهواجس، تمّت صفقة النفايات وسط غموض كامل في مسألة استدراج العروض والمناقصات. والحجة هي أنّ الناس لم يعودوا قادرين على التحمُّل والانتظار.

واللافت أنّ الاعتراضات على الفضيحة تكاد تكون معدومة. فالأقوياء أقفلوا هذه الثغرة، لأنهم وضعوا الجميع أمام الحائط المسدود. وهم يواجهون المعترضين بالسؤال: «هل عندكم حلّ آخر»؟ وطبعاً، لا أحد عنده جواب!

لكن هؤلاء الأقوياء أعجز من الإجابة عن أسئلة عدة أو تبديد الشكوك التي تدور في أوساط المعنيين والخبراء، وهي:

1 - إنّ السعر المعلن لترحيل الطن من النفايات هو في حدود 130 دولاراً. لكنّ كلفة الترحيل الحقيقية ستنطلق من حدود الـ230 دولاراً للطن، إذ سيضاف إليه ما يقارب الـ100 دولار للكنس والجمع والنقل التي ستتولاها «سوكلين» وشركة لبنانية أخرى.

ولكن أيضاً هناك كلفة تحضير النفايات لتُصبح ملائمة لمواصفات الترحيل. فوفق القوانين المرعية الإجراء دولياً، يجب أن تكون النفايات المُرحَّلة جافة لا رطبة. فمن سيتولّى التجفيف؟ وبأيّ كلفة، وكيف سيتم التخلّص من عصارتها؟

كما يجب أن تُزال منها النفايات التي تصنَّف خطرة وفق المعايير العالمية. وهذا يحتاج إلى عملية فرز أولية. فمن سيقوم بها، وبأيّ كلفة؟
ولذلك، قد يضطر الأمر إلى الاستعانة ببعض المعامل الموجودة للفرز الأولي قبل التصدير، ما سيرفع الكلفة إلى أكثر من 230 دولاراً.

فإذا كان الأمر كذلك، لماذا لا تكون هذه المعامل جدّية وتتولّى معالجة النفايات بالكامل ضمن خطة معتمدة، فيتم توفير المبالغ التي ستترتّب على الخزينة والبلديات من جرّاء الترحيل، والتي سيدفعها المواطن من جيبه الخاص- إذا جرى رفع سعر صفيحة البنزين 3 آلاف ليرة كما يتردد- وتذهب إلى جيوب لا يعرفها أحد؟

وهل الدولة اللبنانية باتت قادرة على التضحية بنحو 400 مليون دولار سنوياً، (أي 600 مليون دولار إذا اقتضى الأمر على 18 شهراً فقط) فيما هي على شفير الإفلاس، وفيما تتجنّب إعطاء الموظفين والعسكريين حقوقهم المشروعة في سلسلة الرتب والرواتب، وفيما تستنجد بالمؤسسات الدولية لمساعدتها على مواجهة الانهيار المحتمل؟

وكيف تضمن الحكومة ألّا يتحوَّل الموقّت إلى دائم كما كل شيء في لبنان، من قصّة الكهرباء والباخرتين التركيتين... إلى قوانين الانتخاب!
فالاعتراضات على إقامة مطامر في المناطق محقّة وفي محلها الصحيح لأنّ لبنان بلد صغير جداً وغني جداً بالشرايين المائية السطحية.

وأي تلوّث لها يؤدي إلى كارثة بيئية وصحية. ولذلك لن يوافق أحد، ولو بعد 18 شهراً على إقامة مطمر في منطقته. وسيتم التمديد للبواخر حتى إشعار آخر.

2 - تمّ التذرّع بالسرعة والضغط البيئي والصحي لتمرير الصفقة بعيداً عن الآليات الرقابية السليمة. فلا معلومات واضحة لدى الرأي العام عن الشركتين اللتين رسا عليهما الخيار، ولم يصدر ما ينفي الكلام المتداول على ارتباطهما ببعض القوى المحلية ذات النفوذ.

وليس هناك شكوك في سِجِلِّ رجلِ دولةٍ كالرئيس تمام سلام، ولكن الأحرى ألّا يستاء من الذين يسألون عن الشفافية في مجلس الوزراء، بل أن يقف إلى جانبهم.

فهو نفسه ينادي بالشفافية ويكرِّر كل يوم أنه يعاني الأمرَّين مع الفساد والفاسدين. ويجدر التذكير بأنّ وزير البيئة محمد المشنوق، وهو الأقرب إليه، إنسحب باكراً من ملف النفايات. فلماذا؟

3 - لقد تمّ اختيار ترحيل النفايات إلى بلد غير معلوم، وكأنّ في الأمر فضيحة لا يراد كشفها. ولأنّ لبنان من الموقِّعين على اتفاقية بازل للعام 1954، فهو مضطر إلى الترحيل إلى دول أخرى وقَّعت عليها أيضاً، وضمن المعايير العلمية المسموح بها. أما إذا كان سيرحِّل النفايات إلى دول خارج اتفاقية بازل، فهو في ذلك سيخرق شروط الاتفاقية. وهذا أمر له عواقبه.

4 - حتى الآن، ليس هناك وضوحٌ يقينيّ في أنّ الوزراء الذين بتّوا أمر الترحيل قد درسوا جيداً ما إذا كانت آلية وصول النفايات من الأحياء والشوارع وتوضيبها وشحنها في البواخر قد أصبحت جاهزة. ولذلك، سيكون موعد البدء بتنفيذ القرار مرهوناً بتوفير عناصر هذه الآلية.

5 - كيف ستتم مراقبة وزن النفايات التي سيجري ترحيلها، ومَن يَضمن عدم التلاعب بها لتحصيل الأرباح غير المشروعة، علماً أنّ هناك أسئلة طرحها البعض أساساً حول الوزن الحقيقي للنفايات التي كانت تفرزها بيروت وجبل لبنان طوال الـ17 عاماً الفائتة؟

6 - هل ستكون «بروفا» النفايات مقدمة لصفقة يتم إنضاجها واختبار صلاحيتها في ملف النفط؟

7 - كيف سيتم التخلص من النفايات في الجنوب والشمال والبقاع؟ هل بالمطامر؟ وكيف سيتمكن السياسيون النافذون من إقناع أهالي هذه المناطق بقبولها بعد أن يتم اعتماد خيار الترحيل في بيروت والجبل؟

وإزاء هذا كله، يبقى لغز أساسي: لماذا سكت الحراك المدني «الهيّاج» فجأة، وهو أساساً قامت أمجاده على ملف النفايات؟ ولماذا لم يَصدر عن الهيئات «الحامية الرأس» أي موقف اعتراضي يُذكر؟

هذه «الرؤوس المدنية الحامية» مَن يُحَمّيها، وأي رؤوسٍ «تَحْمي»، وبأي رؤوسٍ «تَحْتَمي»؟
الفضاء اللبناني يختنق بالروائح الكريهة. والظاهر أنهم جميعاً «طِلعِت ريحتهم».