بقدر ما تبدو قضيَّة المواطنة حسّاسة، وقد يراها البعض غير واقعيّة، في ظلّ تنوّع الأديان ونزاعات الطوائف، وسيطرة الحزب الواحد أو الدّين الواحد أو المذهب الواحد أو القوميّة الواحدة، فإنّنا نراها ضروريّة وملحّة في هذه المرحلة العصيبة التي تعيشها أمّتنا، حيث يتنامى الانقسام بكلّ تلاوينه، والذي بات يهدّد نسيج المجتمع والأوطان، حتى أصبح الحديث عن التقسيم ظاهراً في العلن، بعدما كان قائماً في السر.
وحسبما نرى، فإنّ المواطنة تشكل الوسيلة الأمثل لحفظ الأديان والمذاهب والأحزاب وكل الفئات.. فهي صمام الأمان من كلّ الفتن الّتي تعصف بواقعنا وتكاد تودي به... فلا يمكن لمن يرى إنسانيّته مقهورة وحقوقه مهضومة، أو يرى نفسه من الدّرجة الثّانية، فيما شريكه في الوطن في الدّرجة الأولى يتنعّم بامتيازات، أن يقبل ويرضخ ولا يبالي، بل سيتوتّر وينفعل ويثور ويستجدي من يمدّ له يد المساعدة.. وغالباً ما لا تكون مساعدة الغير له لسواد عيونه، بل تكون توطئة لقدم له.. وعندها لن تبقى هناك وحدة إسلاميَّة، ولا وحدة وطنيّة، ولا تلاقي أديان...
إنَّ التوترات الّتي نشهدها في واقعنا قد يكون سببها الظاهر هو التدخّلات الدوليّة والإقليميّة، أو الجهات التكفيريّة أو التطرّف.. أو العدوّ الصّهيونيّ.. أو الاستكبار العالميّ.. ولكن يبقى السّبب الحقيقيّ، وهو السَّبب الّذي يقف وراء كلّ هذا الأسباب، هو شعور البعض بالانتقاص من إنسانيّته، لكونه ليس ابن طائفة معيّنة أو مذهب معيّن، أو لكونه ليس صاحب السّطوة والقوّة أو ابن هذا الموقع السياسيّ النافذ أو ابن هذا الحزب أو التنظيم أو ذاك.
إنَّ الغبن اللاحق بأيّ طائفة أو مذهب أو موقع سياسيّ، هو مشروع فتنة أو حرب، عاجلاً أم آجلاً، وهو مشروع تهجير من الأوطان.. فالذين يهاجرون إلى أوروبا، ولأجل ذلك يُعرّضون هم وعوائلهم وأطفالهم للخطر.. إنّما يهاجرون لأنّهم شعروا بأنَّ أوطانهم لم تعد تلبي احتياجاتهم، ولم تعد تشعرهم بإنسانيتهم، فغادورها بدون نية العودة إليها..
قد يرى البعض غريباً أن يتحدث رجل الدين عن المواطنة.. وأن يسوّق لها.. وأنا أنتمي إلى دين، والأديان تتجاوز الأوطان.. لأنها عالمية.
قد يكون هذا الحديث منطقياً وصحيحاً إذا لم نربطه بزوايا ثانية، فلا يعني أن تكون لي علاقة شعوريّة تربطني بأبناء ديني أو بمرجعية دينية، أن يكون ذلك على حساب المصالح العليا لوطني.. فالالتزام بالمواطنية يتم في ضوء المقاصد الكبرى للدين، والتي هي بالتّحديد مقاصد أخلاقيّة وإنسانيّة عنوانها العدل والحريّة وكرامة الإنسان {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، {ولقد كرّمنا بني آدم}.
ويقول الإمام علي(ع): «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.. فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الّذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه»، وإذا كان البعض يتحدث عن صيغة أهل الذمّة أو صيغ أخرى يراها البعض تخلّ بالعلاقات بين المواطنين المختلفين، فإنها لم تعد الصيغة المتعارفة، بل باتت هذه الصّيغة هي العهد والميثاق الوطنيّ.
لقد كنا ولا نزال نريد للبنان أن يقدّم أنموذجاً يُحتذى في إحساس الإنسان بإنسانيته، ما دام هذا البلد ولد من رحم الأديان والقيم، وسنبقى نصرّ على أن يكون لبنان هو مهبط هذه القيم ومنطلقها إلى العالم، وإلا فلنكفّ عن الحديث عن الأديان، ولنتحدّث عن العشائر الَّتي تسمى باسم الأديان.
إنّنا ارتضينا ونرتضي أن تكون صيغة لبنان هي بالشّكل الموجودة فيه، ولو في الحدّ الأدنى مرحلياً، ما دامت هذه الصيغة تمّت بموافقة اللبنانيين، ولكن ما نريده وحفظاً لهذا الوطن ليكون أنموذجاً، أن نضع الأطر الكفيلة بمنع مَن هو ابن طائفة أو مذهب أو محور سياسيّ من أن يتصرّف انطلاقاً من موقع طائفيّته، عندما يكون رئيساً للجمهوريّة أو لمجلس الوزراء أو للمجلس النيابي، أو وزيراً أو نائباً أو مواطناً من طائفة أو مذهب. فعندما يكون في موقع، فعليه أن يكون ابن الوطن لا ابن طائفة.
إن المواطنة ليست كما ينبغي أن تكون خيار النظام فحسب، بل ينبغي أن تكون خيار المواطن الذي عليه أن يتصرّف من موقع أنه ابن وطن ويقيس مَن يختارهم أو يؤيّدهم أو يرفعهم على الأكتاف بمقدار إخلاصهم لوطنهم، لا إخلاصهم لطوائفهم ومواقعهم السياسية.
إن هذه التربية هي مطلوبة في البيوت والمناهج الدراسية والكنائس والمساجد والمراكز الثقافية، فالتغيير لن يكون إلا بتغيير النفوس، فالله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم.
فالمواطن هو مَن يصنع المواطنة عندما يرفع القيادات المؤمنة بالمواطنة على حساب الطائفيين.
إننا ندعو إلى بناء دولة المواطنة في مواجهة دولة العصبيات الطائفية، لا في مقابل الأديان، لأننا نرى المشكلة ليست في الدين، بل في تطييفه وتسييسه، فالدين هو قيم لا تستغني عنها الحياة، بل نريدها في بناء دولة الشفافية والقانون في مواجهة دولة الفساد. دولة القانون في مواجهة دولة المحسوبيات. دولة العدالة في مواجهة الاستئثار. دولة التخطيط في مقابل دولة الارتجال. الدولة الموحدة القوية في مقابل الدولة المتشظية بتشظي طوائفها، والضعيفة بانقسام شعبها. الدولة التي تحدد العدو من الصديق بناء على معايير وطنية، وليس لحساب هذه الطائفة وتلك، وارتباطات هذا الفريق السياسي أو ذاك، بحيث تنتظر كلمة السر الآتية من وراء البحار. أو تذهب إلى هذا البلد أو ذاك حتى يحل مشاكلها. الدولة القادرة على استيعاب طموحات مواطنيها، لا الدولة الطاردة لهم.
إنَّ أمام هذه الدولة عقبات لا بدّ من تذليلها:
الأولى، تتصل بدور النظام الطائفي في زراعة الموانع الكبيرة أمام هذا المشروع، فهذا النظام، ليس بالقوة التي يدعيها، وهذا ما أكدته الحالات الاعتراضية على سياساته، بالرغم من نقاط ضعفها، ولعل قوته بأنه محميّ من داخله ومن الخارج الذي لا يزال يريد لهذا البلد أن لا يكون وطناً، بل دوراً متأثّراً ومنفعلاً.
الثانية، تتصل بموقع لبنان الجيوسياسي، والذي يجعله شديد التأثر بالمعادلة الإقليمية والدولية، وذلك بسبب الطموحات الإقليمية من جهة، وارتهان الطوائف للدعم الإقليمي، لتحسين نفوذها في الصراع الداخلي من جهة أخرى، هذا الدعم الذي يعزِّز سياسة الانقسام ويعمّقها..
الثالثة، هي شعور الإنسان في لبنان وخارجه أن أمانه لم يعد بالدولة بل بطائفته ومذهبه.
العقبة الأخيرة، هي العقلية الإلغائية الإقصائية التي ترفض الآخر، والتي باتت سمة الواقع في بلادنا وحتى في العالم.