قدم الوزير السابق غسان سلامة قراءة شاملة للوضع في لبنان والمنطقة في ضوء التطورات الدراماتيكية المستمرة التي تواكب تآكل نظام اقليمي ساهم الغرب قي ارساء أسسه لعقود، وصعوبة بزوغ نظام جديد خصوصاً في ظل اشتداد حدة الصراع الغربي الروسي. ورأى سلامة ان في أسباب اندلاع الأحداث الجارية في عالمنا العربي، أولاً وصول النظم التسلطية فيه الى نوع من الضعف بل من الإنهاك، وثانياً رهان عدد من الانظمة العربية التي سعت للاستفادة من الانفتاح الاقتصادي على سيرورة العولمة لتعزيز التجارة واستقطاب الاستثمارات والسياحة، من دون التنبه الى ان الانخراط في السوق العالمية لا يمكن له ان يبقى دون اسقاطات على اوضاعها السياسية، وثالثاً الثورة التكنولوجية التي اندلعت منذ نحو عقود ثلاثة، وما زلنا نعيش في خضمٌها، وهي تنتج من المفاعيل السياسية والاجتماعية في أقل من جيل واحد ما هو أعمق وأوسع مما كانت الثورة الصناعية قد أحدثته في أكثر من قرن.

سلامة الذي ألقى كلمة خلال حفل غداء تكريمي أقامته "جمعية أعضاء جوقة الشرف"، في مطعم "لو مايون"في الاشرفية في حضور حشد من الشخصيات السياسية والاعلامية، اعتبر ان للبيئة ايضاً دوراً لا يستهان به في اندلاع ما سمي بـ "الربيع العربي"، لاسيما في انكسار حاد للتوازن السابق بين النمو الديمغرافي والموارد المتاحة، كما كان للنفط دور مهم ايضا إذ ان ارتفاع اسعار النفط والغاز خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ادى الى فوائض هائلة ضاعفت من قدرة الدول النفطية على التأثير في مجريات الامور داخل الدول الأخرى بينما افقد الدول العربية المستوردة الكثير من امكانياتها المالية، مما جعل التناقض صارخا بين الامكانيات المتاحة للدول النفطية وبين جاراتها، فاتحة امام الأولى جادات واسعة للتأثير في مضامين السياسة وفي قرارات الجامعة العربية.

وفي رأي سلامة، ان هناك نوعاً من العلاقة الجدلية قد نشأت بسرعة بين الاضطرابات الداخلية والتدخلات الخارجية فراحت الاضطرابات تستدعي التدخلات، وباتت التدخلات تغذي الاضطرابات. ويصعب بالتالي التصور بأن قراراً اتخذ في مكان ما من العالم لتفجير المنطقة. ويصعب أخيرا، وهذا أكثر اهمية، التصور بأن الحلول السياسية للأزمات الراهنة، ستكون كافية لمعالجة مسبباتها العميقة، ولو ان السعي للتوصل لهذه الحلول ضروري دوما لتخفيض نسبة العنف وللعودة بالمجتمعات الى حال من السلم الاهلي، ناهيك عن ان حالة الاحتراب تفاقم بدورها من حدة تلك المسببات ان بسبب كلفة الحروب الباهظة او بسبب تغليب المساعدات الانسانية الطارئة على الحاجات التمويلية ذات الطابع التنموي. تضافرت هذه العوامل لإحداث تحركات شعبية حقيقية. لكن وضع المنطقة الحساس كان لا بد ان يدفع مختلف القوى الخارجية للتأثير في مجرياتها.

وان كان لا بد من تلخيص ما يجري على هذا الصعيد، فان سلامة يعتبره نوعاً من أقلمة للأمن يرافق عولمة للاقتصاد، ذلك ان اقتصاديات المنطقة باتت جزءاً من السوق العالمية ولكن أمنها بات اكثر تأثراً بدول الجوار، وما يميّز الحقبة الحالية هو ضعف نسبي لتأثير الدول الكبرى مقابل تنام ملموس في تأثير الدول الاقليمية.

وقال سلامة ان النظام الدولي الذي انشأه الغرب تدريجياً طوال نحو خمسة قرون يتآكل اليوم امام ناظرينا من دون ان يحل مكانه توافق حقيقي بين الدول الصاعدة على ماهية نظام عالمي بديل، مضيفا "نحن في نوع من الغسق تتراجع فيه انوار الغرب، بالمؤسسات والقيم والقواعد التي نشرها في العالم، دون ان ينبلج صباح آخر".

واعتبر ان الأمم المتحدة " عاجزة اليوم عن لعب دور الحاضنة لاستبدال نظام عالمي بآخر. فلديها اولا صعوبة عضوية في التعامل مع النزاعات الاهلية المندلعة هنا وهناك وهي التي نشأت لمعالجة الحروب بين الدول لا في دواخلها. ولديها ايضا صعوبة في ايجاد التمويل الكافي لعمليات السلام كما للوكالات الاغاثية الملحقة بها او المنبثقة عنها. وطرأت امور حديثة عليها فاقمت من عجزها كعودة التوتر للعلاقة الروسية مع الغرب الذي كان له التأثير الواسع على عمل مجلس الامن الدولي فارتبك تنفيذ قراراته عن ليبيا وسط تفاسير مختلفة لتلك القرارات، وظهر عجزه الفاقع في الحالة السورية، ناهيك طبعا عن قيادة اممية لا تحظى بكثير من الهيبة والاعتبار لدرجة ان مؤتمر فيينا عن سوريا كاد ان ينعقد بغياب أي ممثل للمنظمة الأممية حتى اللحظة الأخيرة ".    

ولفت الى انه " ان صح هذا التشخيص السريع للحقبة المضطربة جدا التي نمر بها فنتيجته الأولى هي أننا لسنا بعد بصدد اقفال تلك الحقبة او اعلان انتهائها. قد يتطلب الأمر زمنا يقاس بالسنوات، وبالتأكيد لا بالأسابيع ولا بالأشهر، قبل ان تستقر المنطقة على حال جديدة. ثم ان العوامل البنيوية المتفجرة الآن تعني أيضا ان رقعة عدم الاستقرار قابلة للتوسع على الأقل بقدر ما هي قابلة للانحسار. وفي الجوهر فهي تعني أخيراً ان الحلول السياسية والدبلوماسية، على الرغم من طابعها الملحٌ، تبقى من دون خطورة التحديات الوجودية التي تواجه أبناء المنطقة".

 

(من الغداء التكريمي- تصوير حسن عسل)

 

ماذا عن لبنان؟
وان كان التشخيص السالف صائباً فإنه يعني الكثير لوطننا لبنان، وفق سلامة، فأولاً هو يعني ان اتساع رقعة اللااستقرار قد أنقصت كثيراً من مستوى الاهتمام الخارجي بشؤوننا. ولهذا التناقص نتائج ايجابية واضحة بمعنى اننا أقل عرضة للتدخلات وان ساحتنا الصغيرة، حيث تنافست القوى الإقليمية والدولية وتصارعت على أرضنا وعلى حساب امننا واستقرارنا، تكاد ان تكون قد أمست هامشية بالمقارنة مع الساحات العربية الكبيرة والأعظم شأنا التي تشهد الآن اياما صعبة. ولكن لتناقص الاهتمام الخارجي اثاراً سلبية أيضا بمعنى ان الاستعداد الخارجي لدعم لبنان بات أضعف دبلوماسيا وماليا وامنيا. وترتب هذه الآثار مسؤوليات جديدة "لتقليع شوكنا بأيدينا". ورأى سلامة انه على عكس ما يعتقد كثيرون، فان بمقدور اللبنانيين اليوم، اكثر بكثير من حقب عديدة سابقة، واكثر مما يعتقدون اجمالا، ان يعالجوا قضاياهم بأنفسهم من انتخاب رئيس جديد الى إعادة تشغيل المؤسسات الدستورية المعطلة... حتى جمع النفايات.
وفي السياق، طرح سلامة سؤالاً كبيراً يبقى الاساس في رأيه "هل ما زال هناك من لبنانيين في لبنان؟"، مضيفاً: " لقد تحوّلت مؤسساتنا جميعها الى نوع من المجالس الملية نتسلى فيها بإثبات قدرتنا على منع الآخرين من اتخاذ القرارات أكثر من العمل على اتخاذها حتى لو كانت ملحة او حتى حيوية. لقد أدى بعض مضمون اتفاق الطائف، وخصوصاً جل الطرق الخرقاء التي اتبعت في تطبيقه، الى اندثار مفهوم الدولة القادرة المتجاوزة للمصالح الفئوية. كانت تلك الفئوية تحرك حياتنا السياسية قبل الحرب ولكنها اقتحمت بعد الحرب ادارتنا العامة أيضا فطبعت بآثارها الوخيمة لا مؤسساتنا الإدارية القديمة وحسب بل تلك المؤسسات الجديدة التي استحدثناها بعد الطائف ".

 

تغيير قوانين اللعبة
وأوضح ان هناك من يرى الأولوية في تغيير قوانين اللعبة قبل وقف التعطيل المؤسسي شبه الشامل. ولهؤلاء توجه سلامة قائلاً " لا يرى عيوب اتفاق الطائف، وخصوصا مثالب تطبيقه، قدر أولئك الذين أسهموا بتواضع بالتوصل اليه وايّدوه من دون أي رياء. يحق لهؤلاء تحديداً، واعتبر نفسي واحداً منهم، ان يشيروا الى مواضع الخطأ في النص كما في التطبيق وان يفكروا ببدائل أكثر متانة. لكنه يحق لهم أيضا ان يرفضوا هدم ما هو قائم سعيا وراء تلك البدائل. فالعقلانية تقضي بإعادة الحياة لكل المؤسسات الدستورية والإدارية كشرط مسبق لتطويرها بينما يبدو لي ان تعطيل هذه المؤسسات كوسيلة لتعديل الصيغة السياسية هو نوع من المجازفة غير المحسوبة تشي بفئوية حادة وبقدر ملموس من انعدام المسؤولية".

وتابع قراءته للوضع الداخلي قائلاً " لا شك عندي ان مصلحة بلدنا تقضي أيضا بتمني انتهاء المأساة السورية، وبأسرع وقت ممكن، على منظومة سياسية وقانونية وإدارية ترضي أهلها وتضع حدا للرزية الواقعة عليهم. ذلك اني رأيت، ومنذ اليوم الأول ولم أغير رأيي منذ ذلك اليوم، ان الأزمة السورية لا يمكن ان تحل عسكريا بل هي تستدعي عاجلا ام آجلا حلا سياسيا قد يبنى على بيان جنيف وعلى مبادئ فيينا التسعة".

 

"من صلب ثقافتنا"
وذكر ان "الأنظمة التي تستبد بنا خارجة من رحم مجتمعاتنا، والحركات الظلامية التي تنشر الموت في طريقها منبثقة من صلب ثقافتنا، والعالم ما عاد يتسامح مع تكاسلنا الذهني ولا مع تملصنا من مسؤولية ما نفعله بأنفسنا وبالآخرين. بل هو حق العالم علينا ان نتحمل مسؤولية حروب اهلية تمزقنا وانظمة مستبدة تتحكم برقابنا وعنف أقصى نمارسه على أنفسنا وعليه".
وأبدى سلامة شعوره بأن "العالم ما عاد يشاركنا نظرتنا الى ذواتنا وكأننا في عداد ضحايا هذه التحولات الدامية بل بات يميل لإعتبارنا متواطئين، بالفعل او بالقول وخصوصا باللافعل، مع كل نظام وكل جماعة تقوم بتبني البربرية او تمارسها"، خاتماً "فلا نتعجبن من خفوت تنديده بالعنف الذي يصيبنا ولا من تحميله لنا بعض مسؤولية عما يصيبه. وكيف لنا بالفعل ان نلومه ؟".