هناك عبارات مفتاحيّة في القاموس السياسي اللبناني، تدور إحداها حول "فتح البيوت" و"إغلاقها". وربّما كان المصدر الأوّل لهذه اللغة زمن المتصرفيّة الذي عرفه جبل لبنان وملحقاته، أو "لبنان الصغير"، بين ستينات القرن التاسع عشر والحرب العالميّة الأولى.

 

ووفقاً لتلك العبارة – المفهوم قد يُتّهم ذاك السياسيّ الصاعد والجديد بالسعي إلى إغلاق بيت ذاك السياسيّ الأقدم عهداً. واتّهامٌ كهذا ينطوي على شيء من التشكيك بوفاء السياسيّ الجديد، أو الغمز من قناة ميل لديه، يكاد يكون انقلابيّاً، لا يراعي الأعراف والتقاليد.

 

كذلك حين يرحل عن هذه الدنيا سياسيّ ما، خصوصاً إذا كان قطباً، يتبرّع أحد أقاربه (ابن أو أخ أو ابنة أو زوجة...) بطمأنتنا إلى أنّ "بيتنا سوف يبقى مفتوحاً للناس". وهذه عبارة سمعناها بحرفيّتها، قبل أيّام، مع رحيل القطب الزحليّ الياس السكاف.

 

والحال أنّ هذا المفهوم الدائر حول "البيت" و"البيوت" (و"البيوتات" استطراداً)، والدالّ إلى ترتيب طبقيّ قديم يتربّع في صدارته "أبناء البيوت" ويُترك أسفله لمن هم "ليسوا أبناء بيت"، إنّما تلتقي فيه أنماط من الوعي متعدّدة.

 

فهناك وعي ريفيّ يقلّص العلاقات السياسيّة إلى علاقات "بيوت"، تُطعم الناس وتحنو عليهم، فيما ينزع عنها التعقيد القائم فيها لصالح صورة مبسّطة للوجهاء والأعيان من أصحاب "المكرمات". وهناك أيضاً الوعي التجاريّ الذي ينشِئ أصلاً واحداً بين هذه الصورة وبين إعلانات رائجة من نوع أنّ تلك الصيدليّة "تفتح 24 ساعة في اليوم"، أو أنّ ذاك المطعم يفتح "ليلاً ونهاراً".

 

واجتماع الوعيين الريفيّ والتجاريّ هو ما يسمّن الزبائنيّة اللبنانيّة ويمنحها لحمها وشحمها. ذاك أنّ البيت سيبقى مفتوحاً لتقديم الخدمات لـ"الناس"، فيما الأخيرون هم الأهل والأقارب، لا سيّما منهم أبناء "طائفتنا" أنفسهم. وقد تبالغ الزبائنيّة في اللطف والتلطّف فتقول لـ"الناس" إنّهم هم أصحاب البيت. وهذا إنّما يرقى إلى تماهٍ كاذب ومقلوب مع الذين يُفترض بهم أن يكونوا خدم البيت، وأن تكون خدميّتهم هذه قسطاً يُدفع سلفاً لقاء دفاع "البيت" عن مصالحهم.

 

وعلى العموم يقتات هذا الحسّ الفائض بالبيت، من خلال هذا المفهوم كما من خلال مفاهيم كثيرة مشابهة، على حسّ ناقص بالدولة يعزّزه النقص في واقع الدولة ذاتها. وهذا ما نعرفه في "بيت" كبير هو حزب الله الذي يقيم دولة أقوى من الدولة فيما يقايض بالخدمات والتنفيعات حياة "ناس" يُطلب منهم أن يقاتلوا، في لبنان أو سوريّا، فيَقتلون ويُقتلون.

 

ولئن درس بعض الباحثين المافيا الإيطاليّة من زاوية نقص الدولة هذا، والمافيا "عائلات" في آخر المطاف، فإنّ السلاح هو مادّة الوعي الثالث لـ"البيوت". ذاك أنّ الأخيرة قد تقيم الولائم لـ"الناس" في غرفة الطعام، فيما تخبّئ مجرماً من العدالة في غرفة أخرى مجاورة من غرف البيت. وهذا أبسط استخدامات السلاح الذي سمعنا ورأينا رصاصه يلعلع في جنازة زعيم زحلّيّ وعدتنا زوجته بأنّها لن تقفل بيته.

 

المصدر: ناو