يدافع الرئيس أمين الجميّل عن حكومة الإنقاذ، ويُبرز حججاً للإصرار عليها. لم تكن تجربتها مخيّبة في عهده رغم الصعوبات والصدمات التي واجهتها، ووفرة العراقيل السورية. لا يحبّذ حكومة حيادية لحقبة سياسية غير مترفة يُلازم فيها اتخاذ القرارات من فوق تطبيقها من تحت

نقولا ناصيف

للرئيس أمين الجميّل مع تأليف الحكومة تجربة مزدوجة. عرف حكومة تكنوقراط في مطلع عهده ترأسها عام 1982 الرئيس الراحل شفيق الوزّان، وحكومة إنقاذ عام 1984 ترأسها الرئيس الراحل رشيد كرامي. كلتاهما كانت محاولة غير مكتملة. الأولى كان رئيسها السياسي الوحيد بين وزراء أقرب إلى خبراء غير متورّطين في النزاع الداخلي، وذوي سمعة ناجحة في مهنهم. والثانية سوبر سياسية من رأسها حتى أخمص قدميها يُمسك وزراؤها بالشارع واحتكم معظمهم إلى السلاح واحدهم في وجه الآخر.
أُرغمت الأولى على الاستقالة، وكادت تسقط الثانية باغتيال رئيسها لولا تعويمها بحلّ أثار جدلاً دستورياً متشعّباً ومتناقضاً حيال قانونيتها، قبل أن تتداركه المادة 69 من دستور الطائف في الحالات الست لاعتبار الحكومة مستقيلة. اتخذت الأولى خيارات وقرارات وأصدرت مراسيم اشتراعية نقضتها كلّها الثانية. ما افتقرت إليه حكومة التكنوقراط في السيطرة على الشارع، كانت الثانية أقدر على الإمساك به. أراد الجميّل استهلال عهده بحكومة إنقاذ فتعثّر مسعاه، وذهب ـــ على نحو تجربة سلفه الرئيس الياس سركيس في أولى حكومات عهده عام 1976 أيضاً ـــ إلى حكومة تكنوقراط تحت وطأة العقبات والعراقيل.
إلا أن الرئيسين المتعاقبين احتاجا سريعاً، متأثرين بتطورات متلاحقة، إلى العودة إلى خيار حكومة سياسيين.
يكاد رئيس حزب الكتائب يكون وحده بين حلفائه في قوى 14 آذار، باستثناء النائب بطرس حرب زميله منذ برلمان 1972، يدرك الفرق بين تجربتي الحكومتين الحيادية والسياسية ومدى جدوى كل منهما مع مرحلة سياسية غير ملائمة لها. خَبِرَ الأولى قوياً في السنة ونصف السنة الأولى من ولايته، والثانية في ظلّ تناقض التفاهم والانقسام في أربع سنوات ونصف سنة من ولايته. أوجدت التجربة الثانية تكافؤاً بين موازين القوى، إلا أنها مكّنت الرئيس والوزراء من اتخاذ قرارات أساسية وجبه تحدّيات كبيرة.
ولأنه أدرك التجربتين معاً، قد يكون ذلك سبب تمايز الجميّل اليوم عن حلفائه في المعارضة بتمسّكه بحكومة سياسية ذات صفة إنقاذية، فيما يطالب الباقون بحكومة حيادية.
للرئيس السابق أكثر من حجّة تحمله على تعزيز وجهة نظره.
يقول: «بالتأكيد أتمسّك بحكومة إنقاذ نظراً إلى الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والأمنية والديبلوماسية والاجتماعية التي يقتضي أن يتحمّل القادة اللبنانيون مسؤوليتها في هذا الظرف بالذات. لا أعتقد أن حكومة تكنوقراط، أو وزيراً تكنوقراطياً يمكنه تغطية الجيش وقوى الأمن الداخلي في أحداث كالتي شهدتها طرابلس وعكّار وبيروت وصيدا وسواها، ولا كذلك الأزمات الاقتصادية، ولا الاستحقاقات الديبلوماسية الناجمة عن هذا الحراك والاضطراب اليوم، غير المألوف، الذي يضرب المنطقة والأنظمة العربية خصوصاً».
يضيف الجميّل: «أعتقد بأن حكومة سياسية مصغّرة ـــ وليست بالضرورة من الأقطاب، بل من أشخاص يمثلون القواعد الشعبية ـــ في إمكانها تحمّل مسؤولياتها وإلزام البلاد شعباً ومؤسسات تنفيذ قرارات ضرورية تحفظ سلامة الوطن والدولة وكرامة العباد. كانت الحكومة الثانية في عهدي التي ترأسها الرئيس رشيد كرامي أول حكومة إنقاذ وطني في سني الحرب منذ عام 1975. ورغم كل الشوائب تمكّنت من تجاوز مطبّات وأخطار كبيرة. عندما تعذّر اجتماعها في قصر بعبدا لأسباب شتى، ليس أقلّها التدخّل السوري في شؤوننا اللبنانية ومنع اللبنانيين من التلاقي، عوّضت اجتماعاتها تلك بالمراسيم الجوّالة، وكان للرئيس الراحل رينه معوّض دور إيجابي وبنّاء في ذلك الوقت لإدارة المراسيم الجوّالة وتقريب وجهات النظر حيال توقيعها بهدف تسيير شؤون الدولة. كان لهذه المراسيم فعلها على الأرض، وصدقيتها لصدورها عن قيادات تمثل ثقلاً سياسياً مهماً أو تمثل الشارع وذات قواعد شعبية قوية، كالرئيس كميل شمعون والرئيس عادل عسيران والرئيس رشيد كرامي والرئيس سليم الحص أو كالوزراء وليد جنبلاط ونبيه برّي وجوزف سكاف وعبد الله الراسي، عند استشهاد الرئيس كرامي ـ وكان اغتياله آنذاك بمثابة زلزال يضرب البلاد ـ تجاوزت الحكومة والبلد قطوعاً خطيراً عندما ترأس الرئيس سليم الحص الحكومة خلفاً للرئيس كرامي. حمت الاستقرار وضبط النفس والمؤسسات الرسمية التي ظلّت تعمل بانتظام. حققت حكومة الإنقاذ قسطاً كبيراً من كل ذلك حتى نهاية ولايتي. كانت القرارات التي كنا نتخذها على طاولة مجلس الوزراء، ثم المراسيم الجوّالة بعدما فرضت سوريا مقاطعة رئيس الجمهورية، تطبّق على الأرض بلا عوائق لكونها صادرة عن قيادات مؤثرة على الأرض، ومسؤولة عن قراراتها، وقادرة على فرض تطبيقها، في حين أن حكومة التكنوقراط عندما تجرأت على اتخاذ قرارات لم تكن لديها القدرة على تنفيذها».
وكيف يُقوّم تجربة حكومة التكنوقراط التي شهدتها المرحلة الأولى من عهده، يقول الرئيس السابق للجمهورية: «كانت حكومة انتقالية لفترة وجيزة تعطّل دورها عند أول انتكاسة. كان من الممكن أن تنجح نجاحاَ كاملاً لولا تقاطع المخططين السوري والإسرائيلي لتعطيل الكيان اللبناني برمته، ووطأة الاستحقاقات الداخلية والخارجية عليها. ورغم الضغوط السورية، العسكرية والسياسية، تمكّنت حكومة الإنقاذ في ما بعد، على علاتها، من المحافظة على حدّ أدنى من الصدقية للدولة. في ظلّ الخلافات الداخلية ظلّ رئيس الدولة يُستقبل في عواصم العالم وأوروبا وفي أميركا بهذه الصفة، ويُنظر إلى لبنان على أنه دولة مستقلة ذات شرعية مستمرة، وصاحبة مؤسسات تعمل. طبعاً كان العرب والغرب يعرفان مقدار خلافاتنا وانقساماتنا، لكنهما كانا يعرفان أكثر وطأة النفوذ والتدخّل السوري وتقاطعه مع التواطؤ الإسرائيلي. كان الخارج يُفاجأ أحياناً بمدى التطابق في الرأي بيني وبين الرئيس كرامي، ثم الرئيس الحص، في القضايا المصيرية والمهمة للبنان، على وفرة خلافات أفرقاء الحكومة من المسائل الداخلية، بل إن أهم ما حققناه في تلك المرحلة كان اتفاقنا عام 1987 على موقف موحّد وقوي للبنان من المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط، الذي طُرح في ذلك الحين. تقدّمت أنا والرئيس كرامي ـ وكان وزيراً للخارجية أيضاً ـ بمذكرة مشتركة للأمم المتحدة. كان على لبنان أن يقول موقفه من المشاركة في المؤتمر الدولي، ودوره فيه في نطاق الصراع العربي ـــ الإسرائيلي».
يُلاحظ الجميّل كذلك أن الحكومة السياسية في الظروف الراهنة «ضرورة وطنية من أجل ان يبقى لبنان كياناً محاوراً للعرب والغرب. أعتقد أن علينا أن ننظر في النصف المليء من الكأس، لا النصف الفارغ عندما نقرّر مواجهة الاستحقاقات. في عهدي كان أكثر من نصف الكأس مليئاً في حكومة الإنقاذ الوطني. ورغم كل سيئات حكومة الإنقاذ، تظلّ حسناتها تفوقها. كل ذلك يجعلني واثقاً من جدوى اللجوء إلى هذا الخيار».
يُصرّ على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها وإن في ظلّ القانون النافذ حالياً، ويضع موقف البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في سياق احترام المواعيد الدستورية للاستحقاقات. يقول: «لم يقل البطريرك أي قانون يريد، وليس لديه قانون محدّد، ويتمسّك بالمواعيد الدستورية واحترامها. أما الباقي، فهو مسؤولية القيادات السياسية، وهي متعدّدة الطرف. هناك الحكومة والقادة الذين يماطلون في إقرار قانون جديد. لذلك كان موقف حزب الكتائب إعطاء قانون الانتخاب أولوية قصوى من الآن حتى موعد الانتخابات. سنحضر كل جلسة لمجلس النواب بندها الوحيد قانون الانتخاب، منعاً لفرض قانون 2008 على اللبنانيين في الانتخابات المقبلة. وإلا لا حول ولا قوة. بالنسبة إلينا مواعيد الاستحقاقات فوق كل اعتبار، سواء كانت نيابية أو رئاسية، والخروج عليها يمثل خطراً على ديمومة المؤسسات الدستورية والاستقرار السياسي والصدقية الدولية للبنان. لا يعقل أن الدول التي لم تذهب عقوداً طويلة إلى الانتخابات باتت اليوم على خط الديموقراطية، بينما لبنان ـــ وكان قدوة ديموقراطية ـــ يتراجع الآن ويفوّت على نفسه استحقاقات بمثل هذه الأهمية».
وهل يوافق على إجراء الانتخابات في ظلّ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بينما يقاطعها حلفاؤه، يجيب الجميّل: «تنظيم الانتخابات تدبير إجرائي تقوم به الإدارة الحكومية، أي وزارة الداخلية، بالتعاون مع الأجهزة المختصة، وليس قراراً سياسياً استنسابياً للحكومة. هذه الآلية تنطلق تلقائياً عند أوان الاستحقاق في معزل عن أي قرار حكومي».
وحينما يُقال له هل رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط كان على حقّ عندما أصر على قانون 2008، يُجيب الجميّل: «ليست أول مرة يكون فيها وليد بك بيضة القبّان سلباً أو إيجاباً».