أعلن الوزير أكرم شهيب خطة الحل الممكن لمشكلة النفايات المتراكمة في بيروت وجبل لبنان، ومع هذا الإعلان، شهدنا جملة مواقف متشعبة ومتناقضة، تقف على طرفي النقيض إزاء وسائل حل هذه الأزمة، فمنها ما اتخذ الرفض المطلق سبيلا، ولو تضمنت التطمينات البيئية المطلوبة، ومنها ما اعتبر أن خطة الوزير شهيب يجب أن تنفذ، بغض النظر عن مدى مطابقتها للشروط البيئية، لأنها الحل الوحيد المتاح.
وبين هذين الحدّين المتعارضيَن، كان البحث عن التوفيق بين الحل الممكن، وتعزيز الشروط والمواصفات البيئية والصحية للحل، هو الهاجس لدى الباحثين عن المخرج من أزمة باتت تهدّد الحياة اليومية والتماسك الوطني وتطرح أسئلة حول مدى قدرة الدولة على القيام بواجباتها الأساسية، قبل أن تصبح دولة فاشلة!
خصوصية عكار
تتمتّع عكار بخصوصية الحرمان المزمن، وبخصوصية أنّ حكومة الرئيس تمام سلام لم تخصّص لها سوى 7 ملايين دولار في موازنتها، في حين أنّه كان يفترض أن تصل حصتها إلى الـ80 مليوناً، كون أهالي عكار يشكلون نسبة 17% من سكان لبنان.
أما على المستوى البيئي، فإن الحدّ الأدنى من الحماية غير متوافر، وفي ملف النفايات، لا يوجد في عكار مطمر أو مكبات تتمتع بالقواعد العلمية اللازمة، والواقع حاليا يقتصر على مكبات عشوائية منتشرة في أرجاء المحافظة، إضافة إلى مساحات مفتوحة في مناطقها ترمى فيها النفايات، مشكّلة مصدر خطر على المياه الجوفية وعلى الصحة العامة، ومنها ما هو واقع في مناطق ذات طبيعة خاصة، مثل المكب المنتشر على طريق عيون السمك، التي تشكّل عين عكار الرائعة من حيث الطبيعة الخضراء والمياه العذبة والمحيط الجاذب.. ومثل المكب المتشكّل على ضفتي نهر البارد، حيث يتم إحراق النفايات على ضفته الشمالية ليصل دخانها الى بلدة ببنين ومحيطها، وعلى الضفة الجنوبية تتكدّس النفايات في منطقة عدوة، مشكّلة مصدر تلويث مباشر للمياه.
أما مشكلة الصرف الصحي، فهي تضرب عميقا في السهل العكاري وفي الجرد ولا توجد منطقة إلا وتعاني من هذه المعضلة الخطرة، وهناك أنهار كانت مصدرا للثروة السمكية وللانتاج الزراعي تحوّلت إلى أنهار للمجارير لا حياة فيها، ولم تعد أكثر من قناة للصرف الصحي، كما هو الحال مع نهر الاصطوان، الذي كان معلما سياحيا ومصدر إنتاج زراعي، لكنه بات الآن مصدرا من مصادر التلوث، بعد أن قامت القرى الواقعة على ضفتيه بتحويل صرفها الصحي إليه.
ومع انفجار أزمة النفايات في بيروت وجبل لبنان، بدأ البحث عن سبل الحل الممكن، فبرز إسم مكب سرار في عكار كأحد المواقع المقترحة كبديل لمطمر الناعمة الذي استنفد مدّته ولم يعد صالحا للاستخدام، وأصدرت الحكومة قرارها بتخصيص 100 مليون دولار لإنجاز عدد من مشاريع التنمية في عكار.
وهنا ظهرت الاعتراضات التلقائية، لأنه ظهر للوهلة الأولى أن المائة مليون جاءت بمثابة «رشوة» حكومية مقابل قبول استقبال نفايات بيروت وجبل لبنان في مطمر سرار.
في الشكل، حصل خلل منذ اللحظة الأولى في مقاربة الملف، لأن المائة مليون دولار هي حق لعكار من دون أن تكون موضع تفاوض حول أي ملف آخر.
ومنعا لاستمرار هذا الانطباع، تحرك الوزيران أكرم شهيّب ونهاد المشنوق لفتح حوار مباشر مع البلديات والمجتمع الأهلي والخبراء البيئيين، لتصل الأمور إلى وضعية فيها الكثير من التوازن والواقعية، ورفع مستوى الأمان البيئي في عكار.
وبعد اللقاء الجامع الذي انعقد في البيال، وشارك فيه شهيب والمشنوق ورؤساء البلديات والجمعيات الأهلية، وقدم فيه الخبراء البيئيون عرضا مفصلا لواقع مطمر سرار ولطبيعة المشروع وحصل نقاش واسع مع الخبراء ومع الوزيرين شهيب والمشنوق، باتت الرؤية أكثر وضوحا وتم تجاوز عقدة الرفض المسبق وبات النقاش في كيفية تحسين الشروط الصحية والاجتماعية لأهالي عكار.
نحو مقاربة وطنية لملف النفايات في عكار
..ولكن، بعد متابعة دقيقة لهذا الملف، نرى أنّه لا بـدَّ من الوقوف عند النقاط الآتية:
ليس ثمة شك في أن الأولوية المطلقة، قبل فتح أي نقاش حول استقبال نفايات من خارج عكار، تتمثل في تثبيت حق عكار في التنمية البيئية والصحية، وهذا ما أقرّه لقاء البيال، الذي خلص على لسان الوزيرين المشنوق وشهيب إلى تأكيد أن مشاريع عكار التنموية التي ارتفعت عمليا إلى 400 مليون دولار، لا علاقة لها بموقف أهل عكار من استقبال النفايات من بيروت، وهي مشاريع ستمضي إلى التطبيق، سواء رفض الأهالي أو قبلوا المساهمة في تحمّل جزء من نفايات العاصمة، وأوّل هذه المشاريع، هو المطمر ومصنع المعالجة.
العنوان العريض الذي يجب أنْ يتّخذه مشروع معالجة المشاكل البيئية لعكار وبيروت، هو أنه مشروع وطني بامتياز، وليس مشروعا استثماريا تقليديا يتغلّب فيه رأس المال على الاعتبارات الإنسانية والاجتماعية.
< دور بلدية بيروت:
من هنا، يمكن الولوج إلى نقاط أكثر عمقا في البحث، ومنها: دور بلدية بيروت.
من الناحية العملية، فإن بلدية العاصمة هي المعنية الكبرى بنجاح تجربة استقبال النفايات في عكار، ولهذا، فإن دورها يجب أن يكون أبعد من المواكبة اللوجستية، لتنتقل إلى المساهمة في عملية التنمية المحلية، من خلال دعمها لمشاريع بيئية ملحة وطارئة، خاصة أنها تتمتع بوفر مالي يسمح لها بتقديم الدعم لبلديات عكار وصولا إلى الإسهام في تنفيذ مشاريع حيوية مثل تأمين محطات تكرير لقرى بلدات نهر الاسطوان بهدف تخليصه من المياه الآسنة، وإعادته معلما سياحيا ومصدر إنتاج زراعي وحيواني (بما في ذلك الثروة السمكية)، على سبيل المثال لا الحصر. ويمكن هنا تخصيص مبلغ سنوي من بلدية بيروت كمساهمة في مشاريع عكار التنموية.
< تفعيل الخدمة الاجتماعية للشركة المتعهّدة:
المسألة الأخرى الهامة أيضا، هي أنّه لا يجب اعتبار مطمر سرار مجرد مشروع استثماري يبتغي الربح فقط، بل إنّه، نظرا لخصوصية عكار، بند «خدمة المجتمع» يجب أن يكون ساريا بمنسوب مرتفع، وأن تكون نسبة أرباح المتعهّد مراعية لأن تكون شركته مساهمة في التحسين البيئي والاجتماعي للمحيط العكاري، حتى يصبح استيعاب نفايات العاصمة أمرا مقبولا ومرحّبا به.
الخطوات التنفيذية
< على المستوى التنفيذي، يجب اعتماد الخطوات الآتية:
- تثبيت حق عكار في حل مشكلة النفايات وفق القواعد البيئية المطلوبة، وذلك عبر إنشاء مطمر خاص بها، تتوافر فيه كل المعايير الضامنة لعدم حصول أي تسرّب أو تلويث من هذه المنشأة، لا للمحيط السكاني المباشر، ولا للمياه الجوفية. وفي حال وقوع ضرر على السكان، فلا بد من تأمين التعويضات المجزية التي تسمح لهم بالانتقال إلى مكان سكن آخر.
- معالجة مشكلة المكبّات العشوائية وضبط حركة رمي النفايات في أنحاء عكار، وتنظيف هذه المكبات، وإيجاد الآلية اللازمة لمنع الرمي فيها بعد ذلك.
- إنشاء مصنع لمعالجة النفايات وإتمام آلية التخلص منها بمعايير عالية الجودة، وعدم السماح بالتهاون بهذه المعايير.
- إطلاق ورشة لمواجهة التحديات البيئية في عكار ووضع جدول أولويات لها.
- إشراك المجتمع الأهلي في المتابعة والمراقبة واعتماد الشفافية في التعاطي بهذا الملف.
تحوّل المشهد العكاري
تشهد عكار سلسلة لقاء بلدية واختيارية لاستخلاص الآراء والتوجّهات، ويفتح الوزيران شهيب والمشنوق خطوط تواصلهما على مدار الساعة، لتجنّب وقوع المحظور باختلاط النفايات والأمطار، وبوقوع كارثة بيئية وصحية لا يُعرف مداها.
يريد «حزب الله» وامتداداته السياسية استعمال ملف النفايات في إطار التعطيل الشامل في البلد، وبعض 14 آذار لم يحسن إدارة الملف وساهم في التعثر الحاصل، ما زاد الاضطراب وقرّب الجميع من الفوضى.
وما حصل مؤخّرا، من حوارات هدف بشكل أساس إلى سحب هذا الملف من الاستغلال السياسي، فضلا عن أنّه مظهر صحي وإيجابي، وقد بات المشهد في عكار الآن أفضل: فنوّاب كتلة تيار المستقبل أيدوا خطة الوزير شهيب، باعتبارها خطة الحكومة، وعمل النائب معين المرعبي على تزخيم التواصل مع رؤساء البلديات والاتحادات بشكل فاعل ومؤثر، بالتوازي مع حرصه على المعايير البيئية.
أما النائب خالد ضاهر فأصبح يتبنّى ضرورة المساهمة الوطنية في تحمّل أعباء العاصمة، والدفع نحو مساهمة بلدية بيروت والملتزم بعملية التنمية المحلية، دفاعا عن كرامة عكار وأهلها، وقد سُجّل تواصل بين النائب ضاهر والرئيس فؤاد السنيورة والوزير أكرم شهيب، وبات خط الحوار مفتوحا ومتواصلا.
ولم يقتصر التواصل على النواب، بل إن النواب السابقين تواجدوا في المشهد، فالنائب السابق وجيه البعريني التقى الوزير المشنوق في وزارة الداخلية، واستمع إلى شرح مستفيض حول مشاريع عكار وضرورة توسيع دائرة المشاورات للوصول إلى تفاهم حولها.
بدوره، شارك النائب السابق طلال المرعبي بفعالية واضحة في لقاء البيال حول عكار، وبات من المتابعين المباشرين لكل التطورات الحاصلة في هذ الملف.
النفايات.. الثروة المفقودة
عكار تعاني بيئيا، وباتت المصيبة جامعة، والمشكلة المتفاقمة لا بد من أن تجد لها حلا على الأراضي اللبنانية، ومنها عكار، والنفايات عند الساسة مصدر ثروة، وحان الوقت لتصبح مصدر تنمية وطاقة وفرص عمل ورخاء للمجتمعات المحرومة والمهمشة، وهذا لا يتحقق إلا بتقدّم حاسم من الحكومة بوزراتها وأجهزتها المعنية، وبثبات المجتمع الأهلي على سقفه العالي والواقعي، بالوصول إلى حلول بيئية وطنية، تراعي البيئة وتسهم في الإنماء، لأن هذه المعادلة هي الوحيدة المتاحة اليوم، وسط النزاع السياسي القائم.