ما كان لإبن طرابلس أن يتوقع تحوّل مشروع "حماية الإرث الثقافي لهذه المدينة" ، إلى نقمة وعبء ، وما كان ليتأمل أن يتحول حقه بمحلات شرعية ، لباحة لبسطات السوريين المنتشرة هنا وهناك بفوضى ودون رقيب ...

 

سُقف النهر ؟ هذا هو كان "هم" القيمين ،

بل لنقول ُسقف تراث من الشمال ، بداعي "الثقافة المدعية" التي لم تجلب لهذه المدينة سوى الكثير من الإزدحام والغوغائية فضلاً عن انتشار الحشرات والزواحف ...

لن أتكلم هنا عن الحلول ، ولن أدخل في سياق المواقف والمشكلة ، فما لم تستطع الأقلام أن توصله خلال 5 أعوام (وهي الأعوام التي توقف بها المشروع ) ، لن اكرره الآن ...

 

ولكن لي سؤال للمعنيين ، كيف وبأي جرأة تطرحون للشمال مشاريع ، وها هي مشاريعكم السابقة "أنهكت هذه المنطقة " ، وأثقلت أبنائها وهجرتهم ...

 

وللحقيقة ما جعلني أستوقف عند نهر "أبو علي" الآن ، هو الحنين إليه ، ولغة الشمال الشغوفة حينما تتحدث عن الفيحاء "قديماً"  ، الأمر الذي بث في داخلي الفضول لأتساءل: ما الذي إختلف جذرياً وكم من مرة إنتهكت حرمة "أبو علي" ، وإغتصبت "عذرية طرابلس" ، ليكون حجم الحسرة بحجم الأعمار والأجداد  ...

والجواب الأول والذي سمعته كان من جدتي ، إذ قالت : " كان في نهر قبل الطوفان ، وبعد الطوفان قتلوه "

تروي لي جدتي بشغف كيف كانت طرابلس وكيف كان "العم أبو علي " بصحته وعافيته ، تقول لي : " كان كل شي أخضر وكنا نتمشى عالنهر ، كان في أشجار الصبر حد النهر ، وبعيد عنه كانت أغصان الزيتون ، ما كان في عجقة ولا بسطات ولا هالبنايات كان كل شي حلو ... " .

وتضيف جدتي :

"كانت المناطق حد بعضا ما كنا بعاد ولا كان في زمامير وضجة تفصلنا ، كنا أحباب "

وحسب كلامها الممزوج بالغصة  ، فقد كان الطوفان هو الرصاصة الأولى ، حيث توسع النهر وصبَ وذهبت البراءة وبدأت الأبنية السكنية تتمادى بمحو الآثار الجميلة ، وأخذت المدنية الغير مدروسة تسرق حضارة "الفيحاء" ...

 

لأسألها "بأسى مازج صوتها"  ما الفرق بين الآن والماضي يا جدتي :

فتقول لي " ما ضل شي على شي للاقي فرق كلو تغير " !

 

جدتي ، لم ترّ بعد كيف أصبح "أبو علي" اليوم ، هرماً متعباً ، وكيف كانت الرصاصة الثانية قاتلة له ، لم تبصر ظهره المحمل ببسطات المهجرين ، ولا الخيم العشوائية التي محت آخر مظاهره ...

ولم تعلم كيف تحولت أشجاره لباطون ، وكيف إستوطنته القمامة والحشرات وبقايا الأشياء ؟!

 

جدتي حزينة على "أبو علي" الطوفان ، ونحن بدلاً من أن نعيده ، إستمررنا بإغتيال مائه حتى ما تركنا به لا علي ، ولا علياء ....