تخوض فصائل المعارضة السورية المسلّحة منذ أكثر من شهر مواجهةً مفتوحة مع القوات العسكرية الموالية لبشار الأسد في شمال غرب سوريا، وقد استطاعت المعارضة تحرير محافظة إدلب وريفها وصولاً إلى جسر الشغور، إضافة إلى مساحات واسعة من شمال سهل الغاب، ما يمكن اعتباره ديموغرافيًا أن المعارضة أحكمت سيطرتها الكاملة على مناطق ذات طابع سكاني سنّي، وأصبحت على تماس مباشر مع مناطق العلويين في غرب سهل الغاب وريف اللاذقية، لتغدو المناطق الموالية للنظام وخزانه البشري، تحت مرمى نيرانها.

 

هذا التغير الميداني وضع النظام سياسياً تحت مرمى نيران خصومه الإقلييمين، أنقرة والرياض والدوحة، الذين اجتمعوا على إسقاطه، وأجمعوا على ضرورة وحدة الأراضي السورية، وعدم السماح بقيام كنتونات طائفية او عرقية مستقلة.

 

المعارك التي تخوضها قوات المعارضة في شمال غرب سوريا، تزامنت مع اندلاع أعمال عنف إثنية في شمال غرب إيران، في مدينة مهاباد الكردية، احتجاجاً على حادثة انتحار فتاة كردية، بعدما حاول رجل أمن إيراني الاعتداء عليها. ظاهرياً اعتُبرت هذه الحادثة السبب المباشر لتحرك الأكراد الايرانيين، وضمنياً فقد جاء التحرك رداً على تاريخ مليء بسياسات التمييز العرقي والمذهبي التي تمارسها سلطات طهران بحق الأـقليات الإثنية والعرقية، منذ قيام دولة إيران الحديثة أي قبل قرن تقريباً.

 

منطقياً لا يمكن ربط الحالتين ببعضهما. الأولى هي نجاح عسكري لقوات المعارضة السورية، نتيجة تقاطع مصالح عواصم إقليمية مستجدّ في سوريا، ولهذا النجاح بعدٌ جيوستراتيجي مبنيّ على استحالة القبول بكيان علوي مستقل. أما الثانية فهي ردّة فعل على حادثة اعتداء، لكنها كشفت حجم مأزق العلاقة بين المركز والأطراف في ايران، وأزمة الأقليات المتصاعدة، وخطرها على استقرار ايران الداخلي ووحدة اراضيها.

 

تاريخياً لم تصمد جمهورية مهاباد الكردية، التي أعلن الحزب الديمقراطي الكردستاني عن قيامها في شمال غربي ايران سنة ١٩٤٦ بغطاء سوفياتي أكثر من ١١ شهراً، فقد كانت ضحية تسوية بين واشنطن ولندن وموسكو، حيث رفعت موسكو الغطاء عنها لاحقاً، بعد أن أُقِرّ لها بالسيطرة على جزء من ثروة ايران النفطية، فأعطى الديكتاتور السوفياتي جوزف ستالين الأوامر لجيشه بالانسحاب من شمال وشمال غرب ايران، الأمر الذي سمح للجيش الايراني دخول مدينة مهاباد، واعتقال زعيم الانفصاليين الشيخ قاضي محمد وإعدامه.

 

اليوم فإن القضية الكردية عادت إلى الواجهة على وقع أزمات المنطقة المعقّدة، وشعور الأكراد المنتشرين في أكثر من دولة أن الفرصة باتت متاحة أمامهم لرد الاعتبار لقضيتهم، والمجاهرة بنوازع انفصالية كانت حتى وقت قريب مجرد رغبات غير معلنة، وتجربة كردستان العراق مثالاً. ففي سوريا يجهد الأكراد لاستغلال فرصتهم التاريخية، وذلك بالتفلت من سيطرة الدولة المركزية من جهة، ومن جهة أخرى عدم الانضمام الى قوى المعارضة، ووضع شروط مسبقة في حال التعاون معها، حيث تسمح لهم هذا الوضع بمراكمة مشروع استقلالي على المدى البعيد، على غرار التجربة الكردية في العراق، فتأتي احداث مهاباد هذه اللحظة الإقليمية، لتنبّه النظام الايراني من خطورة اللعب بكرة الثلج الكردية، وإلى أن إضعاف السلطة المركزية في بغداد، والدفع إلى تقسيم سوريا سيؤثران مباشرة على الأمن القومي الايراني، واستقرار ايران الداخلي وسلامة اراضيها.

 

أما تركيا التي تبدو أقلّ اضطراباً من غيرها في الأزمة الكردية الحالية، فهي تتكئ على نجاحها النسبي في إدارة حوار مع الأكراد من اجل التوصل الى تفاهم طويل الأمد معهم بمساعدة أربيل، هذا الحوار سمح للأكراد بتأسيس أول حزب رسمي لهم سنة ٢٠١٢ "حزب الشعوب الحرة" الذي حصل على نسبة ١١٪ في الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة، ليضع الطبقة السياسية الكردية أمام خيارات صعبة تاريخيًا، بين الاستمرار في المعارضة لكن من داخل مؤسسات الدولة هذه المرة، وعبر الشراكة في الحكم، وبشروط الدولة، يضاف الى ذلك ايضا، نجاح حزب العدالة والتنمية الحاكم في استمالة التيارات الدينية الكردية، ونجاح الحكومة التركية في توقيع اتفاق سلام مع حزب العمال الكردستاني أدى إلى انسحاب مقاتيله الى جبال قندوز.

 

هذا لا يلغي قلق تركيا من تنسيق بعض الأكراد مع جماعات كردية مسلّحة في سوريا تتعاون مع طهران والأسد، وهذا من شأنه ألا يحمي انقرة من توسع المطالب الانفصالية لدى أكراد تركيا، مستفيدين مع تطور الوضع الكردي السوري واحتمال انعكاسه على الأكراد في ايران، الذين استعادوا أحلام مهاباد مجدداً.

 

في المقلب السوري تقف أنقرة بحزم في وجه طهران، باستحالة قبولها قيام كيان علوي في حال انكفاء الأسد الى الساحل، فقضية تقسيم سوريا الى كيانات عرقية ودينية خط أحمر بالنسبة للأمن القومي التركي، لا يمكن لأحد تجاوزه، فهو سيؤثر مباشرة على استقرار إقليم هاتاي التركي ذو الأغلبية العلوية، حيث توجد جماعات انفصالية تطالب بالوحدة مع الجانب العلوي السوري، كما سيشجع الأقلية العلوية الكردية ٣٠٪ من الأكراد على استثمار تقسيم سوريا لصالح نزعاتها الانفصالية.

 

 وإذا كانت طهران ترى أن تقسيم سوريا سيكون تعويضاً لخسارتها الكبرى فيها، فإنّها لا تستطيع أن تمنع وصول حمى التقسيم الى العراق، الذي ستخسر فيه الشيعية السياسية موقعها السلطوي في حال خسرت الجزءين السنّي والكردي، وسيتحول الوسط والجنوب الشيعيين الى منطقة جغرافية تخضع للنفوذ الايراني، بلا أي دور سياسي، إضافة الى ان تدحرج كرة الأقليات كفيل بتمزيق وحدة الاراضي الايرانية، فنفوذ باكو وأنقرة على الآذريين الإيرانيين كبير، وهم يشكلون ٢٢٪ من الشعب الايراني، ومتغلغلون في إدارات الدولة والمناصب العليا القيادية، ولدى بعضهم رغبة في تخفيف قبضة سلطة الدولة المركزية، والحصول على نوع من الحكم الذاتي، وهناك طرف انفصالي ناشط يدعو الى الوحدة مع جمهورية اذربيجان، عدا أن ورقة البلوش وعرب الأهواز ليست بحاجة الى من يشعلها، فهي تزداد تفاقماً يوما بعد يوم، خصوصاً مع لجوء طهران الى الخيار الامني بدل التنموي في التعامل مع قضية الحقوق الثقافية والاجتماعية للقوميات.

 

تركيا معنية بوحدة الأراضي السورية، بقدر ما إيران معنيّة بوحدة الأراضي العراقية، والطرفان يحاولان الالتفاف على مسألة الأقليات التي تؤرق أمنهما القومي، ولكن هل هناك مغامر يرغب في التفلت من ثوابت الأمن الجماعي للمنطقة ويعبث بالمستحيل الإقليمي؟ في النهاية لا أحد يستطيع آن يمنع الشعوب من حقها في تقرير مصيرها.