هل سيوقَّع الاتفاق النهائي بين مجموعة 5+1 (الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا) وإيران في الموعد المحدد، أي في آخر الشهر الجاري، أم سيمدد الموعد؟ وكم سيستغرق رفع العقوبات؟ وبأي شروط؟ هناك أربع إشكاليات يجب التوقف عندها عند محاولة الإجابة على هذين السؤالين.

 

أولاً: العقوبات القديمة والدعاوى على إيران

 

بدأ فرض العقوبات أميركياً في تشرين الثاني (نوفمبر) 1979 بعد عشرة أيام من احتجاز إيران موظفي السفارة الأميركية في طهران، إذ أمر الرئيس جيمي كارتر بتجميد موجودات إيران في البنوك الأميركية وفروعها في العالم. قَدرت الإدارة الأميركية قيمتها في حينه بما بين 10 و12 بليون دولار أميركي.

 

عندما حصل الانقلاب على الشاه في 11 شباط (فبراير) من تلك السنة، كانت العلاقات التجارية مزدهرة بين الدولتين، بما في ذلك بيع أسلحة أميركية إلى طهران بلغت قيمتها في السنة السابقة للثورة حوالى 2,6 بليون دولار أميركي. وبالطبع كانت هناك معاملات تجارية واستثمارية غير مكتملة بين البلدين جُمِّدت بدورها من الجهتين، ما جعل الأمور أكثر تعقيداً.

 

واتفق الطرفان في محادثات نظّمتها الجزائر في عاصمتها في كانون الثاني (يناير) 1981 على إطلاق المحتجزين مقابل تعهد أميركي بـ: عدم التدخل في شؤون إيران الداخلية، وعدم السماح بمقاضاة المحتجزين إيران بعد إطلاقهم، ومساعدة إيران في المحاكم الأميركية للحصول على أموال الشاه، وإعادة الأموال الإيرانية المحتجزة وقيمتها حوالى 8 بلايين دولار. غير أن معظم هذه الأموال وضع في حساب لتسوية أوضاع إيران مع الشركات الأميركية. وما زال هناك خلاف على عقود سلاح دفعت إيران ثمنها ولم تسلم، تبلغ قيمتها 12 بليون دولار وفق الإيرانيين، و500 مليون دولار وفق الأميركيين، كما أن هناك شبكة من المطالب والمطالب المضادة لم يتم تفكيكها بعد. أما أموال الشاه التي قدرتها إيران في حينه بـ24 بليون دولار، فتجاهلتها أميركا بعد أن توفي الشاه في مصر وليس في الولايات المتحدة، ولكن هذه المسألة لا تعتبر محسومة بعد.

 

تجددت العقوبات بعد أقل من سنتين بسبب حادث تفجير مقر المارينز في لبنان باعتباره عملاً إرهابياً. وفي سنة 1995، ونتيجة لحادث هجوم على باص في إسرائيل توفيت فيه الأميركية أليسا فلاتو واتهم فيه «الجهاد الإسلامي المرتبط بإيران»، أصدر الكونغرس الأميركي قانوناً يسمح بمحاكمة حكومات أجنبية، نتج عنه حكم سنة 1998 يطالب إيران بدفع حوالى 250 مليون دولار لعائلة فلاتو، كما طالبها حكم لاحق في السنة نفسها بدفع حوالى 400 مليون دولار لأربعة أميركيين اختطفوا في لبنان وإلى أسَرهم، معظمها ذهبت للصحافي تيري أندرسون وأسرته. كل هذه الأموال وغيرها اقتطعت من الأموال الإيرانية المجمدة. الأهم من ذلك أن هذا القانون فتح المجال لدعاوى كثيرة، مثلاً من ورثة أشخاص قتلوا في تفجيرات مركز المارينز الأميركي سنة 1983 وتفجير السفارة الأميركية في بيروت في السنة نفسها، ربحها المدّعون وبلغت قيمتها بلايين الدولارات من دون الحصول على الأموال من الأصول الإيرانية المجمدة بسبب نفادها. ويعتبر البعض أن القانون الجديد يفتح المجال أيضاً لمتضررين من احتلال السفارة في 1979 أن يطلبوا تعويضاً. يقول أحد محرري «نيويورك تايمز»: «عندما تُرفع العقوبات الاقتصادية على إيران سيلاحِق محامو أصحاب الحقوق الشركات المتعاملة مع إيران بموجب قوانين أميركية تسمح بذلك»، ما قد يؤدي إلى حجز أي أموال لهذه الشركات موجهة إليها من إيران.

 

 

 

ثانياً: دور الكونغرس في رفع العقوبات

 

وضعت أميركا دفعة جديدة من العقوبات، من خلال شبكة معقدة من القوانين والإجراءات طاولت أشخاصاً ومؤسسات وتعاملات مصرفية، وذلك ابتداءً من سنة 1995 وحتى سنة 2013. هناك مسألتان يجب التطرق إليهما في هذا السياق. أولاً: بعض هذه العقوبات وضعه الكونغرس والبعض الآخر بموجب أوامر تنفيذية أصدرها رئيس الجمهورية. ثانياً: بعض هذه العقوبات يتعلق بدور إيران المساعد للإرهاب وتشمل عقوبات فرضت بعد حوادث الخطف وتفجير مقر المارينز والسفارة الأميركية في بيروت سنة 1983 بعد هجومات أيلول (سبتمبر) 2001، وبعضها الآخر لدورها في تهديد الاستقرار في المنطقة (الذي قد يعتبر مسانداً أيضاً للإرهاب ولو جزئياً) كما في الوقت نفسه لأمور لا تتعلق بالإرهاب، خصوصاً برنامج إيران النووي والصاروخي.

 

بالنسبة إلى المسألة الأولى، يعود الحق برفع العقوبات الرئاسية إلى رئيس الجمهورية، الذي يستطيع أيضاً «تعليق» عقوبات اتخذها الكونغرس وليس «رفعها»، وذلك بعد إعلام الكونغرس بأن السبب لوضع هذه العقوبات قد زال.

 

ويستطيع الرئيس نفسه أو رئيس جمهورية بعده رفع التعليق بقرار رئاسي أيضاً. ربح الكونغرس الجولة الأولى في مواجهته أوباما عندما وقع الأخير، بعد أخذ ورد وتهديدات متبادلة، قراراً للكونغرس نال تأييد كل الجمهوريين والغالبية الساحقة من الديموقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ، يجبره على تقديم أي اتفاق ينجزه مع الإيرانيين لمطالعته من الكونغرس خلال خمسة أيام من انتهاء المفاوضات، مرفقاً بتقرير من رئيس المفاوضين الأميركيين، وزير الخارجية جون كيري، يفصّل فيه كيف باستطاعته التحقق من امتثال إيران شروط الاتفاق، وكذلك تقييم أوباما كفاية الضمانات بأن إيران لن تسعى لصنع قنبلة نووية، وتفصيل للعقوبات التي تنوي أميركا والدول الأخرى والأمم المتحدة رفعها.

 

على الكونغرس بالمقابل أن يتخذ قراراً بشأن قبول الاتفاق أو رفضه خلال 30 يوماً يجمَّد خلالها أي رفع للعقوبات. المشــكلة هي في أن يرفض الكونغرس الاتفاق، ما قد يدفع أوباما إلى وضع فيتو على قرار الكونغرس، الذي يجب عليه الحصول على ثلثي الأصوات في المجلسين لتجاوزه، وهذا غير محسوم حالياً، إذ سيتوقف على نوعية الاتفاق و الضغوط التي ستمارسها إسرائيل من خلال اللوبي الإسرائيلي لرفضه. على كل حال، فكلما طال الوقت كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية القادمة في تشرين الثاني 2016 وكلما أصبح الرئيس أقل فاعلية واللوبي الإسرائيلي أكثر فاعلية.

 

بالنسبة إلى المسألة الثانية، فالإدارة الأميركية والكونغرس يتفقان على عدم رفع العقوبات المتعلقة بالإرهاب في المرحلة الأولى، ولربما حتى الوصول إلى حلول للمشكلات المتعلقة بإيران في المنطقة وفصلها عن العقوبات الأخرى، خصوصاً تلك المتعلقة ببرنامج إيران النووي والصاروخي. لكن هذه العقوبات مترابطة ومتكاملة، ففي عام 2005 مثلاً أصدرت إدارة بوش الابن سلسلة من الأوامر تم بموجبها تجميد ممتلكات شركات وأشخاص بسبب مساندتهم الإرهاب، ولكن في الوقت ذاته لأسباب أخرى، كمساندة دور إيران المهدد للاستقرار في العراق وعلاقة هؤلاء ببرنامج إيران النووي والصاروخي.

 

 

 

ثالثاً: دور مجلس الأمن والدول المشاركة بالعقوبات

 

توسعت العقوبات على إيران جغرافياً بدءاً من سنة 2006 عندما أصدر مجلس الأمن قراره الرقم 1696 تحت الفصل السابع، الذي أمر إيران بموجبه بإيقاف التخصيب كلياً، وأتبعه بخمسة قرارات كلها -إلا واحداً- تحت الفصل السابع، تم بموجبها تجـــميد أمـــوال وحظر سفر بحق أشخاص وشركات تتعامل مع إيران في برنامجها النووي، وأمر أيران بإيقاف عملها على تطوير الصواريخ البالستية ووضع حظراً على بيع الأسلحة إليها. تجاوبت دول عدة مع هذه القرارات، واتُّخذت إجراءات قانونية على أساسها، من هذه الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي وأستراليا وكندا والهند والصين واليابان. المشكلة هنا أن الاتفاق النهائي المنتظر لا يطلب من إيران إيقاف التخصيب بل فقط تخفيض نسبته، ولا يطلب منها إيقاف عملها على تطوير الصوارخ البالستية، أي المطلبين الرئيسين الذين على أساسهما صدرت القرارات الدولية وتبعتها قرارات الدول الآنفة الذكر. سيكون على مجلس الأمن إذاً أن يرفع العقوبات من دون انتفاء الأسباب التي وُضعت العقوبات من أجلها، كما سيكون على بعض الدول التي وضعت العقوبات بناء على قرارات مجلس الأمن أن تفعل الشيء ذاته من خلال قرارات وطنية جديدة. وعلى كل حال، مازال هناك خلاف على جدولة رفع العقوبات وآلية العودة الأوتوماتيكية إليها (snap back) إذا أخلّت إيران بتعهداتها.

 

إن أهمية العقوبات الأميركية ليست في قيمة الأموال والممتلكات الإيرانية المحتجزة، والتي لا تشكل سوى قسم صغير من المجموع حول العالم، بل في العقوبات الأميركية الأخرى، خصوصاً المصرفية منها، التي تبعتها فيها أوروبا، والتي تجعل تعاملات إيران التجارية بالدولار واليورو صعبةً جداً، إن لم تكن مستحيلة، فالأموال الإيرانية المحتجزة حول العالم التي تقدر بما بين 50 و100 بليون دولار (لا أحد يعلم بالضبط) ناتجة في معظمها عن مبيعات النفط غير المسددة بسبب العقوبات المصرفية الأميركية والأوروبية، ومعظم هذه المبيعات هي للصين والهند واليابان ولشركات بريطانية وهندية وكورية ويونانية، ما دفع إيران إلى بيع نفطها في بعض الأحيان بعملات غير الدولار واليورو، أو بطريقة تبادل السلع (barter).

 

 

 

رابعاً: ضغوط وحرب إسرائيلية

 

وأخيراً، هناك ضغوط من دول عربية وغير عربية، كفرنسا وتركيا، لربط جدولة رفع العقوبات بتوقف إيران عن تدخلها في شؤون دول المنطقة، خصوصاً لبنان وسورية والعراق واليمن والبحرين وغيرها. الموقف الأميركي حتى اليوم يتعاطف مع هذا الطرح، كما ظهر من زيارات قام بها مسؤولون كبار لهذه الدول، وهذا لربما ما دفع وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، نشر مقالة استباقية في «نيويورك تايمز» (في 25 نيسان/ أبريل من هذه السنة) بعنوان «رسالة من إيران» يقول فيها «إن مساحة انخراطنا البنّاء تتعدى بكثير المفاوضات النووية. العلاقات الجيدة مع جيران إيران هي على رأس أولوياتنا. حان الوقت لإيران والمعنيين الآخرين للبدء بمعالجة أسباب التوتر في الخليج الفارسي الكبير. الحوار الإقليمي يجب أن يرتكز على أسس معترف بها وأهداف مشتركة، خصوصاً احترام السيادة، وسلامة الأراضي، والاستقلالية السياسية لكل الدول، وحصانة الحدود الدولية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وفضّ النزاعات بالطرق السلمية، وعدم جواز التهديد أو استعمال القوة، ودعم السلم والاستقرار والتقدم والازدهار في المنطقة».

 

يقول عدد متزايد من المعلّقين الأميركيين إن عدم إرضاء إسرائيل قد يجعلها تقوم في نهاية الأمر بحرب لإفشال الاتفاق أو إعاقة تطبيقه. الحرب كما يقول هؤلاء، لن تـــكون ضد إيران مباشرة، لأن ذلك ليس محسوباً، ولكن ضد «حزب الله» لإظهار أن إيران ما زالت راعية للإرهاب، إذ إنها تساند منظمات عدوانية تعتبرها أميركا إرهـــابيـــة. هذه الضغوط الإسرائيلية تعرفها جيداً الإدارة الأميركية، ما دفعها لأن تَعد إسرائيل بمساعدات عسكرية غير مسبوقة، لجهة حجمها ونوعية الأسلحة المتطورة التي تشملها.

 

خلاصة القول أن طلبات حلفاء أميركا، العرب والأوروبيين وغيرهم، لربط رفع العقوبات بعدم تدخل إيران بالأمور الداخلية لجيرانها، والضغوط الإسرائيلية المباشرة، ومن خلال الكونغرس الأميركي، إضافة إلى تعدد العقوبات وصعوبة تفكيكها، كل ذلك قد يؤخر حصول اتفاق إلى ما بعد آخر الشهر الجاري، كما سيجعل تطبيق أي اتفاق -إذا حصل- على مراحل عدة، ويستغرق وقتاً طويلاً، لربما حتى ما بعد عهد أوباما، وعندها... يخلق الله ما لا تعلمون.

 

 

 

(رياض طبارة)