غداة إغتيال الرئيس رفيق الحريري في ١٤ شباط ٢٠٠٥ ، إرتفعت الأصوات المطالبة بخروج جيش النظام السوري من لبنان  خلال التشييع وبعده، وكان هناك بوادر تشي بأن الأمور ذاهبة بإتجاه إخراج الجيش السوري من لبنان وبسرعة قياسية ، نتيجة الزخم الشعبي الذي إنطلق من تشييع الرئيس الحريري وتوسّع ليشمل شرائح كبيرة وأساسية من الشعب اللبناني، وفي ٥ آذار ٢٠٠٥ أعلن رئيس النظام السوري بشّار الأسد بأنه قرّر سحب جيشه من لبنان، يومها رفضت قوى الممانعة هذا القرار، خوفاً على مصالحها ومكتسباتها المرتبطة بوجود هذا النظام وتركيبته الأمنية، وكان حزب الله في طليعة المعترضين على خروج الجيش السوري من لبنان، فدعت قوى الممانعة إلى إعتصام في ساحة رياض الصلح في ٨ آذار ٢٠٠٥  لتوجيه الشكر إلى النظام السوري وإعلان موقفها من قرار سحب الجيش السوري من لبنان، وكان خطيب ذاك الإعتصام أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الذي ألقى خطاباً حماسياً تعبوياً، معطوفاً على مشاركة شعبية كبيرة ضاقت بها ساحة رياض الصلح ، محاولاً إقناع العالم وكل من يعنيه الأمر بأنّ أكثرية الشعب اللبناني تريد بقاء جيش النظام السوري في لبنان، وأنّ المطالبين بخروجه هم قلّة قليلة، فنجح يومها في إقناع جمهوره والكثير من الدول المؤثرة في لبنان بأنّ الأكثرية الشعبية تنحاز لنظام الوصاية وتؤيد بقائه في لبنان، يومها، كان خطاب السيد نصرالله التعبوي كافياً لإستفزاز أكثرية الشعب اللبناني ، فكانت الدعوة للإعتصام في ساحة الشهداء في ١٤ آذار ٢٠٠٥ بمناسبة مرور شهر على إغتيال الرئيس الحريري وللردّ على إعتصام ٨ آذار وعلى خطاب السيد نصرالله ، وكانت النتيجة يومها أن ضاقت ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح وكل الساحات المجاورة لساحة الحرية بالمعتصمين، عدا عن عشرات الآلاف من المواطنين الذين لم يستطيعوا الوصول إلى ساحة الإعتصام، وكان ذاك الإعتصام هو الأضخم بتاريخ لبنان حيث شارك فيه ثلث الشعب اللبناني، فحُسمت مسألة خروج الجيش السوري وخرج في ٢٦ نيسان ٢٠٠٥، وجاءت العواقب سليمة وعكس ما أراده السيد حسن نصرالله في خطابه .

في العام ٢٠٠٩ وفي عزّ الحملات الإنتخابية، وقبل أسبوع من الإنتخابات النيابية، خرج السيد حسن نصرالله بخطاب تعبوي حماسي قال فيه بأنّ  ٧ أيار ٢٠٠٨(غزوة بيروت) هو يوم مجيد في تاريخ المقاومة، وذلك من أجل تعبئة جمهوره ودفعه للتصويت لصالح لوائح فريقه الإنتخابية، فكانت هذه الجملة كافية لإستفزاز وإستنفار أكثرية الشعب اللبناني، وجاءت نتائج الإنتخابات لصالح قوى ١٤ آذار على عكس ما أراد السيد حسن في خطابه التعبوي .

في الخطابين المذكورين أعلاه لم يكن خطاب السيد نصرالله مذهبياً ولا طائفياً ، إلاّ أن موقعه وموقفه وصفته وتركيبة حزبه المذهبية تعبئ مذهبياً في جمهوره،  وفي الوقت عينه تعبئ جمهور خصمه المذهبي كذلك مذهبياً أيضاً وبشكل تلقائي وبدون مجهود كبير من قياداته، لكن التعبئة السياسية إذا إقتصرت على المنافسة الديمقراطية وإلتزمت بحدود اللعبة السياسية وضوابطها، تبقى عواقبها مقبولة ونتائجها معقولة.

أما اليوم، وبعد أن بلغ تورط حزب الله في الحرب السورية نقطة اللاعودة،  وأصبح خطاب مكشوفاً ونواياه معلنة وسقفه عال جداً ، لدرجة إعلان أمينه العام بأنه مستعد للتضحية بثلاثة أرباع طائفته من أجل بقاء النظام السوري، هذا الكلام المسرّب للسيد حسن نصرالله ، بالإضافة إلى خطاباته النارية والتعبوية المكثّفة ، التي تستحضر الماضي الدفين مع كل محطاته وأحقاده وشعاراته المذهبية، أدّت إلى تعبئة جمهوره بنسبة عالية وغير مسبوقة، إلاّ أنّ هذا الخطاب نفسه دون زيادةٍ أو نقصان أدّى وسيؤدي حتماً إلى تعبئة مذهبية مقابلة في صفوف خصمه المذهبي وسوف تستفيد منه وتستثمره المجموعات الإرهابية في سوريا والعراق ولبنان وكل مكان،  وبذلك تكون عناصر الفتنة المذهبية قد إكتملت ورحاها بدأت بطحن عظام الطرفين المتناحرين ، وتطال الأبرياء الذي يقطنون في مناطق الصراع، وهذه الفتنة تمّ وصلها بصراع مذهبي عمره ١٤٠٠ سنة من خلال إعتماد شعارات مذهبية  من قبيل "لبيكِ يا زينب" و "لبيك يا حسين" يقابلها شعارات وتسميات مذهبية أخرى،  وهذه المرّة لن تأتي العواقب سليمة كإنسحاب جيش النظام السوري أو خسارة إنتخابات أو ربحها، العواقب ستكون وخيمة على الجميع ولن يخرج أحد منتصراً من هذه الفتنة، وإذا كان أمين عام حزب الله يراهن على تقديراته بأنه قادر على تعبئة عشرات الآلاف من المقاتلين، فإنه رهان خاسر حتماً، لأن عشرات الآلاف رقم له وزنه في بلد مثل لبنان،  لكن هذا الرقم  إذا زُجّ به في الحرب السورية التي إلتهمت خلال أربع سنوات مئات الألوف من القتلى والمفقودين والمعوقين وملايين النازحين، سيكون نقطة في بحر هائج، لن يغير شيء في المعادلة ولن يجلب للبنان سوى المزيد من الخراب والدمار والمآسي .