يجمع كثير من المثقفين العرب المسيحيين والمسلمين على اعتبار التراث الشيعي، الديني والسياسي، تراثاً مناهضاً للاستبداد، بوجهيه الديني والاجتماعي - السياسي. كما يجمع كثير من أصحاب الرأي على اعتبار الطائفة الشيعية، في لبنان خصوصاً، خزاناً لحركات التحرر، المناهضة للاستعمار والمطالبة بالعدالة الاجتماعية. لطالما خرج من بين الشيعة في لبنان مفكرون وكتّاب وناشطون كتبوا وعملوا وناضلوا في صفوف الحركات اليسارية، الداعية للثورة وللتغيير والمدافعة عن حقوق العمال والفلاحين وسائر المهمّشين. التفسير الذي يقدمه بعض الباحثين لهذه الظاهرة، هو أن «الفكر الشيعي» فكر ثوري، لانتسابه لـ»أهل البيت» الذين ظُلموا وقُتلوا واضطُهدوا لموقفهم المناوئ للسلطة، وللحكام المستبدّين، عبر التاريخ الإسلامي، القديم والحديث. الأمثلة كثيرة عن تعرض الشيعة للاضطهاد في العصور الإسلامية الأموية والعباسية والعثمانية. يقدم بعض اليساريين تفسيراً لراديكالية الفكر الشيعي برد هذا الفكر إلى أبي ذر الغفاري، باعتباره الأب الروحي لليسار العربي الاشتراكي، المناصر للفقراء والمظلومين. ومن الأقوال الشهيرة التي يرددها العرب في مديح علي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري: «عجبت لجائع لا يخرج شاهراً سيفه»، أو «لو كان الجوع رجلاً لقتلته». ما الذي حدث ليصبح الشيعة، بين ليلة وضحاها، ناكرين لتراثهم، الذي طالما تغنوا به في مناصرة المظلومين، فيقفون بأكثريتهم إلى جانب أعتى دكتاتورية عرفها التاريخ المعاصر؟

لكي نستطيع تقديم تفسير للموقف المخزي الذي تموضع فيه الشيعة في لبنان بغالبيتهم، كما العلويون في سوريا، فنحن لن نعمد كما يفعل الكثيرون من المثقفين من أصول شيعية وعلوية لتقديم أعذار مخففة، بالقول إن الكثير من أهل السنة يناصرون الدكتاتور، أو أن ليس كل الشيعة والعلويين من جماعة الدكتاتور، وأن النظام السوري ليس علوياً بل فيه من كل الطوائف. هذه في رأيي المتواضع مجرد أعذار تخفيفية للإثم الكبير: مناصرة الدكتاتور الأكبر وتأخير سقوطه، ما جعل فاتورة الثورة مرتفعة كثيراً، على اللبنانيين والسوريين. 

المواقف الخطأ في التاريخ سبق وأن وقفتها جماعات عديدة في العالم، تعرضت لحروب إبادة حقيقية وليست متخيلة. كما أن جماعات سياسية قامت عقيدتها على مناصرة المستضعفين ومحاربة الظالمين، فعلت الأمر نفسه. ألم يكن شيوعيو ستالين، ومن بينهم الشيوعيون العرب، وما زالوا مناصرين لأعتى الدكتاتوريات، على سبيل الذكر لا الحصر: مناصرة الشيوعيين لأنظمة دكتاتورية في كوبا وفي الاتحاد السوفياتي والصين وفي كوريا الشمالية وفي العراق وسوريا و.. و.. و... وليس علينا إلا أن نتذكر اليهود الذين تعرضوا لأبشع مجزرة في التاريخ المسماة المحرقة أو «الشواه» أو «الهولوكست». رأينا كيف أنه خلال أقل من عقد من تعرضهم للإبادة قام اليهود باغتصاب أرض فلسطين، وطرد شعبها منها، وشنّوا الحروب المتتالية، خلال عقود، على الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والمصريين. كل ذلك باسم حقوق اليهود المظلومين والمحاصرين والمهددين من العرب. وهؤلاء هم الأرمن الذين تعرّضوا للإبادة من قبل نظام أتاتورك العلماني في سياق الدفاع عن تركيا، كما يقال، ضد محاولة الغرب تقسيمها بالتعاون مع الأرمن. في سوريا ولبنان نجد الكثير من النخب الأرمنية تناصر الدكتاتور السوري ضد شعبه أو تفضل هذا الدكتاتور الكبير على قادة أتراك منتخبين، لم يجرموا بحق شعبهم أو بحق جيرانهم.

وليس بعيداً موقف الغرب الديموقراطي المخاتل في تأييده اللفظي للشعب السوري، وسعيه للإبقاء على نظام الدكتاتور، خوفاً من وصول الإسلاميين إلى السلطة، في الوقت الذي نعرف الكثير عن الوشائج التي تربط أجهزة الاستخبارات الغربية بالجماعات الجهادية. الكلام عن حقوق الإنسان في أميركا والغرب، يقابله على الأرض الدعم العلني والخفي لكل ما هو معادٍ لحرية الشعوب وتحررها من أنظمة الاستبداد.

كل ما سبق ذكره لا يعفينا كديموقراطيين، من العمل على نسف الأسس التي تستند إليها العقائد الشمولية، بمختلف أشكالها الدينية والعلمانية. نعتقد بأن نقد الفكر الشمولي يجب أن يكون بدوره شاملاً وعلى مختلف المستويات، وأن يكون من الداخل والخارج في الوقت ذاته. نقصد أنه لكي يكون النقد جدياً وفاعلاً، يجب أن يصدر النقد من داخل النخب المتعلمة ومن داخل الطوائف، ومن داخل القوميات، ومن داخل الأحزاب والمذاهب، كما من خارجها. نفهم أنه من الملح أن يعمد رجال الدين كما المفكرون من أصول شيعية لإجراء مراجعات شاملة للتراث الشيعي لتنقيته من الأساطير والخرافات، التي منعت أصحاب هذا التراث من مناصرة الشعب السوري في كفاحه المرير ضد الدكتاتورية. وبدل الإمعان في خلق أعداء افتراضيين أو حقيقيين من تكفيريين وغيرهم، ولصق تهمة التكفير بالشعب السوري الثائر، المطالب بالحرية والكرامة، علينا أن نوجه سهام النقد للتراث الشيعي، القائم على المغالاة وتغذية الضغائن في أشكاله التالية:

1 - الغلو في ذكر المظالم التاريخية وتضخيمها. 2 - الغلو في تقديس «المقامات» الحجرية والبذخ عليها. 3 - الغلو في الطقوس الكربلائية العنيفة والاستفزازية. 4 - الغلو في تحقير بعض الشخصيات الدينية التاريخية. 5 - الغلو في تقديس شخصيات دينية قديمة ومعاصرة. 6 - الغلو في تقديس الموت والاستشهاد. 7 - الغلو في استغلال المرأة (زواج المتعة مثالاً). لا بد من الإشارة إلى وجود الكثير من رجال الدين ومن المفكرين الشيعة الذين لم يتوانوا، في الماضي والحاضر، عن إخضاع التراث الشيعي لمبضع النقد، بالإضافة لمناصرتهم الشعب السوري في ثورته منذ بدايتها. لا شك بأن نقطة الانطلاق الأساسية في تصويب الحاضر هي في نقد وتفكيك «ميتولوجيا» المظلومية التاريخية، باعتبارها سبباً مهماً في تنامي المشاعر العدائية عند الشيعة العرب وتغذية «الفتنة» بين المسلمين. ثمة مبالغة لم تعد مقبولة في العصر الراهن في الحديث عن «الظلم التاريخي»، من أجل تبرير الظلم الواقع أمام أعيننا تجاه السوريين. ثمة مبالغة كبيرة في استرجاع مظالم قديمة جداً لتبرير ارتكاب مظالم حديثة، تفوق بكثير في بشاعتها كل بشاعات التاريخ القديم. من هنا يبدأ العمل والكلام: في نقد الانحراف الراهن، وفي نقد المبالغة بتضخيم الماضي، وفي نقد المواقف المخزية، التي جعلت الشيعة العرب أقرب ما يكونون لحصان طروادة داخل مجتمعاتهم، منتدبين أنفسهم لخدمة مشاريع خارجية، تهدف لإضعاف العرب واستتباع دولهم.

    بقلم: فؤاد سلامة