كشف تعثّر أو تأخّر استكمال معركة تحرير مدينة تكريت العراقية، من يد تنظيم داعش الإرهابي، حجم الانقسامات التي تعيشها المنطقة، والتباعد في المواقف والأولويات، في مواجهةٍ كان من المفترض أن تحظى بغطاء عراقي وعربي وإسلامي وإقليمي ودولي، بسبب المخاطر التي يشكلها هذا التنظيم على دول وشعوب المنطقة والعالم.

على أبواب تكريت برز كمٌّ هائل من التساؤلات والحسابات، وانفجرت التناقضات الداخلية والخارجية بوجه الجميع، فتوقّفت المعارك أو تراجعت أو انحسرت لأسباب عديدة، منها قتالي ومنها لوجستي، أما الأهم فديموغرافي ببعدٍ إقليمي.

فلم يعد من الممكن إقناع المكوّن السنّي العراقي، والمكوّن السنّي العربي والإسلامي أيضاً، أن ما يجري في العراق معركةً ضد الإرهاب، بعد قيام جهات من ميليشيات الحشد الشعي بنفس ممارسات داعش، والحضور الإيراني القوي قادةً وجنوداً، والظهور العلني والمستفز، لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني في صلاح الدين وقيادته للمعارك، ما ساعد على انقلاب الموقف تدريجياً لصالح أنصار تنظيم الدولة في المدن العراقية، خصوصاً إذا استمر آداء مليشيات الحشد الشعي بهذا الشكل.

تختلف علاقة تنظيم داعش مع سكان المناطق التي تخضع له بين العراق وسوريا، حيث تركيبة التنظيم في العراق تختلف عن تركيبته في سوريا، هذا التباين في التركيبة أدركته طهران باكراً، فتحمست للمشاركة في القضاء على التنظيم في العراق، وتحفّظت في سوريا، ولأسباب عدة.

بالنسبة لداعش العراق فإن 90٪ من عناصر التنظيم عراقيون، وهم أصحاب الأُمرة والقيادة، يعيشون وسط بيئتهم وأغلبهم من البعثيين السابقين، الذين خسروا امتيازاتهم بعد سقوط نظام صدام حسين وحلّ الجيش العراقي، فوجدوا بالمجاميع المتشددة المسلّحة ضالتهم وتحالفوا معها وهم يستفيدون من امكانياتها، لكي يستخدموها أداة في ممارسة أعمال العنف ضد الحكومة المركزية في بغداد، وضد السلطات المحلية، التي فشلت بدورها في إقناع بغداد، بتغيير سلوكها تجاه سكان هذه المناطق، وساعدت على التغاضي عن سلوكياتها والقبول بها، و تبرير الاعتماد عليها في مواجهة الاضطهاد الذي مارسته سلطات بغداد السابقة وإهمالها المقصود لهم، وخصوصاً رفضها إشراك سكان هذه المناطق بالقرار وتهميشهم، فتمكّنت من التغلغل، ونجحت في جعل السكان يتأقلمون مع وجودها، إلى أن اكتملت استعداداتها، وتحركت تحت غطاء داعش لتشاركها في تشكيل دولة الخلافة، وتُخضِع سكان المدن والمناطق العراقية لها، الذين باتوا واقعين الآن بين مطرقة داعش وطموحات البعثيين فيها، وسندان بغداد وأهداف الموالين لطهران ايضاً.

لقد أعادت معركة تكريت الحسابات، ودفعت الى الانتباه أن معركة الموصل لن تكون سهلة، وستكون مُكلفة ماديًا وبشريًا ومعنويًا، وإنّ سوء التقدير فيها سيكلّف العراق وحدته واندماج مكوّناته، فالمأزق بات في صعوبة فصل سكان المدن السنّية عن البعثيين من بقايا النظام السابق، كما لا يمكن فصل هولاء عن داعش، وقد ساعد في ذلك قلق السكان، من التعرض الى ما تعرضت له مدن أخرى على يد المليشيات الشيعية، وعدم وجود ضمانات من قبل السلطة المركزية لحمايتهم، والشعور أن هناك عملية تدمير ممنهج، تقودها طهران ضد هذا المكوّن، من أجل إخضاع العراق نهائياً وسلخه عن محيطه العربي.

لقد تمكّنت داعش من الحالة العراقية، لأنّها بأغلبها محلية مبنيّة على ردّات الفعل، وانتقام من قبل عراقيين بعثيين مرتكبين أو رافضين لما يعتبرونه هيمنة شيعية على القرار العراقي، لذلك يمكن الاعتبار أن جزءاً كبيراً من داعش العراقية في شكلها الحالي إحدى إفرازات البعث، الذي يحظى بحاضنة لا بأس بها في هذه المدن، وخصوصاً الموصل والتي ترى فيه حتى الآن بديلاً مؤقتاً عن المليشيات الشيعية المدفوعة بعامل الانتقام، بانتظار تشكيل مكوّن سنّي آخر، قادر على الدفاع عنها، بوجه داعش وبقايا البعث والميليشيات الشيعية، ويتمكن من فرض شروط الشراكة على الحكومة المركزية.

أما داعش سوريا، فإنّ حجم المواطنين السوريين المنخرطين في هيكلها التنظيمي يشكلون نسبة أقل من 50٪، وأغلب قياداتها من المهاجرين، حيث ينحصر وجود السوريين بشكل ضئيل جداً في الصف الثالث، وأغلبهم في الصف الرابع، بينما قيادات الصف الأول والثاني هي من أصول أوروبية ومغاربية وقوقازية، معروفة بقساوتها ومحاولاتها إخضاع السكان بالقوة لنمط الحياة الذي تراه مناسبًا. 

أما ما يؤرق قيادة التنظيم السورية أن بدائل التنظيم موجودة، وأن السكان الذين يخضعون لها يستطيعون الاستنجاد بفصائل المعارضة والجيش الحر، ليشكّلوا البديل الذي يحميهم من استبداد داعش واستبداد النظام. وهم من بيئة اجتماعية وطائفية واحدة عكس الحالة العراقية، فما يميّز الوضع السوري عن العراقي أن البديل السوري لداعش، الذي سوف يملأ الفراغ ويقود معركة هزيمة التنظيم حاضر ويحتاج الى الدعم فقط، ولا يوجد بينه وبين سكان المدن السورية تباينات عقائدية او مذهبية، على عكس العراق حيث يتفق الجميع على رفض الخضوع للميليشيات الشيعة كبديل من داعش، أو من قوات سنّية اخرى، تتشكل من ابناء هذه المناطق على شكل الصحوات السابقة او الحرس الوطني الموعود.

بالنسبة لطهران فإن إنهاء داعش سوريا دون إشراك بشار الأسد خطر استراتيجي يمكّن الثورة من استعادة أماكن خسرتها، أما خسارة داعش العراق فهي مطلوبة لكن مع ضرورة وجود شريك سنّي يعطي الشرعية لهذا الانتصار. إلا أنّه بالنسبة لسنّة العراق لا انتصار على داعش وعلى البعث من دون ضمانات بالشراكة الوطنية والحاضنة العربية.

    المصدر: ناو