تحولت ساحة (النور) ساحة النور في طرابلس خلال الأيام الأخيرة إلى نقطة استقطاب إعلامي وسياسي غير متوقّع، في حالة تعكس منسوب التوتّر الهائل الذي يجتاح لبنان، حتى كاد البعض يظنُّ أنّ الساحة أشبه بالكعبة المشرّفة، وأنّ لفظ الجلالة أشبه بالحجر الأسود، وسط سباق محموم لاستغلال متعدّد الأوجه، سياسياً وأمنياً وشعبياً، لطرح أراده وزير الداخلية نهاد المشنوق تشاورياً وتنسيقياً، مع دار الفتوى في طرابلس ومع هيئة علماء المسلمين ممثّلة برئيسها الشيخ سالم الرافعي.

قراءة في الوقائع

في إطار الحملة لإزالة الشعارات الحزبية وفق الخطة التي وضعتها وزارة الداخلية لإزالة الشعارات والصور والأعلام الحزبية في بيروت وصيدا وطربلس، بدأت في عاصمة الشمال ورشة إزالة صور السياسيين والنوّاب، وقطعت شوطاً معقولاً في التنفيذ.في هذه الأجواء، طرح وزير الداخلية نهاد المشنوق فكرة إحداث تعديل محدود على العبارات التي تذيـّل لفظ الجلالة، بحيث تـُـسـتـَبدل عبارة «طرابلس قلعة المسلمين.. ترحب بكم»، بآية قرآنية كريمة هي «ادخلوها بسلام آمنين»، بحيث يصبح معنى الآية الكريمة محل ترحيب وإيحاء بالأمان في عاصمة الشمال.
طلب الوزير المشنوق من كاتب هذه السطور نقل الفكرة إلى الشيخ سالم الرافعي، ومناقشته فيها والوقوف عند رأيه ورأي العلماء، بعد أنْ كان قد استشار مفتي طرابلس الشيخ مالك الشعار.
بعد التواصل مع الشيخ سالم الرافعي تم وضع الملاحظات الآتية:
ــ إنّ الوضع في طرابلس الآن محتقن جداً نتيجة استمرار وتيرة الاعتقالات المرتفعة في صفوف الشباب الطرابلسي.
ــ إنّ الأجواء في الشارع نتيجة عملية سجن رومية لا تزال سلبية، رغم التوضيحات التي حصلت، ومع التقدير لجهود الوزير المشنوق في المعالجة والمتابعة، إلا أنّ الجو ما زال مشحوناً وقابلاً لسوء الاستغلال.
ــ إنّ ساحة النور ولفظ الجلالة تعرّضت لهجوم طائفي عنيف مما يُسمّى «حزب المشرق»، وأصوات مسيحية أخرى متطرّفة، وسيبدو أنّ أي تعديل هو استجابة لهذه الأصوات الموتورة.
ــ هناك شعارات طائفية أخرى في مناطق لبنانية لا تقل استفزازاً عن العبارة المطلوب إزالتها، فضلاً عن إشكالية عدم شمول الضاحية والجنوب بخطة إزالة الشعارات، بما يوحي كأن المستهدف هي المناطق السنية.
ــ رأى الشيخ الرافعي أنّ الأولى انتظار تطبيق الخطة الأمنية في البقاع، وإظهار شيء من التوازن الأمني قبل الدخول إلى مسألة حسّاسة يمكن استغلالها لاستهداف الوزير المشنوق، ولإحراج الشيخ سالم الرافعي وهيئة العلماء، والتأثير على حضورهم الشعبي.

ــ من الأفضل أنْ يتم طرح تغيير العبارة، ضمن فكرة لتحسين مدخل طرابلس، بحيث يتم تكليف مهندسين ومختصين بوضع مخطّط يُعاد فيه تصميم الساحة ولفظ الجلالة بطريقة أكثر جمالية وأكثر قبولاً.
وإثر الاجتماع بالشيخ الرافعي تم نقل رأيه إلى الوزير المشنوق، إلا أنّ الجميع قرّر انتظار الاجتماع الذي دعا إليه الشيخ الرافعي، وتم لاحقاً في مركز الجماعة الإسلامية بأبي سمراء.

إجراءات مُريبة

كانت نتيجة الاجتماع مطابقة لملاحظات الشيخ الرافعي، وكان توجّه الوزير المشنوق إلى انتظار رأي العلماء، إلا أنّ مساراً آخر كان قد بدأ بشكل منفصل عن هذا المسار، تمثّل بثلاث نقاط سلبية، تمثّلت بالآتي:
ــ نقل مسؤولون حزبيون عن محافظ الشمال رمزي نهرا قوله إنّه تلقّى أوامر من الوزير المشنوق بإزالة لفظ الجلالة كلياً، وأنّ المحافظ طلب ممَّنْ اجتمعوا به التدخّل لدى الوزير المشنوق للعدول عن هذا القرار الذي لا يستطيع تحمل نتائجه، خاصة لأنه من الطائفة المسيحية.
ــ قيام قوى الأمن الداخلي صباح الأحد بنشر مجموعة آليات عسكرية وبعض آلات الحفر الصغيرة والمتوسطة، الأمر الذي أعطى الانطباع بأنّ هناك خطوات لإزالة لفظ الجلالة.
ــ استدعاء آمر فصيلة طرابلس لوسائل الإعلام بشكل مفاجئ، الأمر الذي أثار موجة إشاعات أثارت التوتر في المدينة بطريقة غير مبرّر.
صباح الأحد، قام العميد بسام الأيوبي بزيارة الشيخ سالم الرافعي في منزله، ونقل إليه طلباً مفاجئاً، تمثـّل بطلب إزالة الرايتين (العلمين الإسلاميين) المرفوعـَين على يمين وشمال لفظ الجلالة في ساحة النور، وهو أمر لم تتضمّنه رسالة الوزير المشنوق للشيخ الرافعي.
تحفّظ الشيخ الرافعي عن الطلب، وأبلغ العميد الأيوبي بأن هذا الأمر ليس مناسباً، لأنّ الرايتين ليستا رمزاً حزبياً، بل هما شعاران إسلاميان لا يُثيران حفيظة أحد، بل من شأن إزالتهما إثارة إشكال كبير في المدينة.
مضت ساعات المساء ثقيلة، وبُعيد منتصف الليل، قامت القوى الأمنية بإزالة الراية المرفوعة إلى يسار لفظ الجلالة، الأمر الذي استدعى نزول أعداد من الشباب احتجاجاً على إزالتها.وشكّلت هذه اللحظة، نقطة جذب لكل أشكال التناقض والنزاع والتوتّر في طرابلس، واستغلها البعض ليعُيد تعويم نفسه في المدينة، في حين كانت خطوة نزع الراية موضع استفزاز لفئة أخرى من الشباب وسط التحريض المتفاعل على شبكات التواصل الاجتماعي.
وكانت الراية المنزوعة بيضاء اللون، ولم يكن لدى المحتجين راية بيضاء بديلة، فتم رفع الراية السوداء المتوفرة.
هذه التحرّكات دفعت «هيئة علماء المسلمين» إلى حصر إطار المسؤولية في إطار «مسؤولين في الشمال»، بعد أنْ كان ثمة رأي في الهيئة يتّجه إلى التسمية المباشرة.وقد اضطر المحافظ نهرا إلى زيارة مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار لتوضيح موقفه وليضع قضية تحميله مسؤولية ما جرى في ساحة النور أمام المفتي الشعار.

موقف النائب الضاهر
كان من بين الواصلين إلى ساحة النور ليلاً النائب خالد الضاهر، الذي أطلق موقفاً اجتزأته بعض المحطات التلفزيونية لتطلق ضدّه حملة ثأر سياسي، انضم إليها بعض الوزراء والنوّاب، دون التدقيق في سياق التصريح، الذي هدف من خلاله الضاهر إلى «التمييز بين الرموز الدينية المعتبرة لدى كل الطوائف، وبين الرموز الحزبية»، مشيراً إلى عدم جواز الخلط بينهما.وإزاء الحملة الإعلامية والسياسية الضخمة التي تعرّّض لها النائب الضاهر، أعلن عن تجميد عضويته في كتلة نوّاب المستقبل رفعاً للحرج الناجم عن هذه الحملة.عـودة الهدوءاستقر الوضع في ساحة النور على وقوف الوزير المشنوق عند رأي الشيخ الرافعي، نظراً للاحترام الكبير الذي يكنّه الوزير للشيخ، ولعدم وجود أي رغبة لديه في إدخال طرابلس في توتّر هي بغنى عنه، في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها وتيسطر على لبنان عموماً.
ولاحقاً تم استبدال الراية السوداء المرفوعة عند يسار لفظ الجلالة بأخرى بيضاء، لتجنّب إبقاء أي شكل من أشكال التوتّر.مظالم طرابلس الكبرى إنّ اشتداد حـدّة التوتّر في طرابلس حول قضية ساحة النور، لا يعبّر بشكل خاص عن الموقف من التغيير المطروح حول الساحة بقدر ما يعبّر عن هواجس ومخاوف هائلة تجتاح المجتمع الطرابلسي في خضم التطوّرات الجارية، محلياً وإقليمياً ودولياً.فالشعور العام بالغبن والظلم والاستباحة، هو السائد لدى مجمل الشرائح الاجتماعية في عاصمة الشمال؛ والحرمان من الحقوق، على تنوّعها، إنسانية حقوقية واجتماعية وتنموية وتعليمية وصحية.. بات يتحكّم بطريقة تفكير معظم أبناء المدينة، الذين قاربوا حافة اليأس من حضور الدولة لإنقاذهم من بؤسهم المتمادي، فتحوّلت ساحة النور إلى رمز لهوية أبعد من الانتماء الديني، بما هي رمز للصمود على هـوية باتت اليوم الملاذ الأخير للناس، بصفتها هوية إسلامية، تعطي المنتسبين إليها بعض عوامل الصمود..من هنا كانت خطورة الإيحاء باحتمال إزالة لفظ الجلالة وتغيير معالم ساحة النور.

الخطة الأمنية: ألف موقوف!

جنت طرابلس من الخطة الأمنية استقراراً، لكنه بقي استقراراً سلبياً، واستمرّت موجة الاعتقالات إلى حـدٍّ باتت بعض التوقّعات تتحدّث عن قرابة الألف موقوف منذ معركة طرابلس التي دارت في الأسواق القديمة والتبانة، وأسفرت عن تدمير واسع لم تعوّض الدولة إلا جزءاً يسيراً منه، في حين غاب الاهتمام الفعلي عن مناطق تغرق في كل أشكال الفقر والإهمال.أدّى تراكم الاعتقالات إلى كارثة اجتماعية حقيقية لا ينظر إليها المسؤولون بعين الاهتمام، لكن الاستمرار في تجاهلها سيؤدي حتماً إلى نزوح شبابي واسع النطاق نحو نحو التطرف والعنف، بل نحو الخيارات الأكثر حـدّة وعنفاً، أعني الخيار التفجيري كما حدث مع الشابين من المنكوبين، ومن سبقهما..

جمود التنمية

لم تستطع حكومة الرئيس تمام سلام أن تقدّم لطرابلس مشروعاً جدياً واحداً يعطي إشارة إغاثة فعلية للمدينة، بل نراها غارقة في صراع عقيم حول تعيين رئيس ومجلس إدارة للمنطقة الاقتصادية الخاصة، وتكاد تفقد تماسكها حول ملف من هذا النوع..من هنا، تصبح «طرابلس قلعة المسلمين» متراساً لجبه المخاوف وسط شعور بفقدان الظهير والأمان، حيث لم يستطع الحوار بين «تيار المستقبل» و«حزب الله» أن يأتي بأي تنازل جدي من الحزب لصالح جمهور التيار حتى الآن، ودخل الوضع السني في حالة انتظار دون أفق.
فالتوغّل الأمني استمر دون توقّف يستهدف الشباب السني، والمفارقة المؤلمة هي زجّ أعداد كبيرة منهم في السجون لمشاركتهم في نصرة الشعب السوري، في حين يتمتّع عناصر «حزب الله» بحصانة ممارسة الإجرام على الأراضي السورية.والخطة الأمنية أوصلت الجيش إلى أعماق التبانة، لكنه لا يزال يقف على أعتاب بريتال ومشارف مثلث الموت.. ومناطق الحزب محمية من إزالة الشعارات واللافتات لأنها تقع ضمن «الاستراتيجية الدفاعية»، أي إنّها أيضاً عصية على الدولة، بعبارة اوضح.

دعـوة إلى استئناف الحوار

كل هذه العوامل، تجعل من ساحة النور ومن راياتها وعباراتها، التي تنتمي إلى مرحلة لم يكن هذا الجيل ومن سبقه شركاء فيها، رمزاً للدفاع عن الذات، وبات يلزم أبناء طرابلس الكثير من استعادة الكرامة والعدالة والإنصاف، ليستعيدوا ثقتهم بإمكانية عودة الدولة إليهم، واحتمال عودتهم إلى الدولة..يحق للوزير المشنوق أن يطرح التعديل والتجميل والتطوير، وهو في خضم ما يتعرّض له من حملات تشهير، لا بـدّ من إبداء التقدير لما يتمتّع بـه من هـدوء وحكمة وحرص على التشاور مع الجميع، وخاصة العلماء، رغم التباين الحاصل بينه وبين الشيخ سالم الرافعي في هذه القضية، إلا أنّني وبصفتي صديقاً وأخاً للوزير وللشيخ، أدعو إلى حوار هادئ وبارد ومباشر، يشمل مروحة واسعة من قيادات المدينة، يوصل في النهاية إلى رؤية مشتركة، ويسمح للوزير المشنوق برؤية كل زوايا القضية واستيعاب كل وجهات النظر، والتفاهم حول كيفية إزالة ما يتفق عليه من شوائب، وتعزيز ما يرسو عليه الإجماع.ليست القضية فقط عبارة «طرابلس قلعة المسلمين» وليست المسألة رايات سود أو بيض، بل هـو البحث في دور مدينة ضربها زلزال الأزمات مبكراً، وتلفحها رياح الظلم على مدار الأيام، والوزير المشنوق نجح خلال الفترة الماضية في فتح حوار عميق ومجدٍ مع مروحة واسعة من القيادات الإسلامية، والمطلوب استعادة الزخم السريع لهذا الحوار.