هو عقل يؤبلس الواقع ويقدّس الوهم.

هو عقل يئد الحقيقة، لأنه لا يستطيع مواجهتها والتعامل معها.

إنه عقل يخاف التحدّي ويعجز عن تأمين حاجاته بنفسه.

وسبب ذلك كله، برأينا، مرجعه واحد، وتندرج تحت عنوانٍ عام، هو مسألة تغييب الحريّة، فرديّة كانت أم جمعيّة. إن توفر الحريّة عموماً، وحريّة التعبير على وجه خاص، هي المبدأ الأهم، والشرط الأوّلي لتطوّر أيِّ مجتمعٍ وتقدمه.

إن المجتمع أشبه ببركة ماءٍ كبيرة، تصبُّ فيها وترفدها، أنهار مختلفة من الآراء ووجهات النظر، فتملؤها وتغنيها، فإذا انقطعت هذه الأنهار عن تدفقها، جفت البركة وأسنت مياهها.

وهكذا المجتمع، تفعل الآراء الجديدة فعلها فيه، وترفده بسبلٍ من الآراء والنظريات، فإذا صودرت هذه الأفكار، إستحال المجتمع جثةً مهترئةً، تنتظر من يواريها الثرى.

والنقد من الحريّة، كالضوء من الضوء، لا وجود لأحدهما دون الآخر، لأن النقد، هو من يضفي على الحريّة معناها ويبيّن جدواها.

وإنّ مجتمعاً ما، أو دولةٍ ما، لا يسمحان بحرية الإنتقاد، هما كمن يحفر قبره بيديه.

وهذا هو حال المجتمعات العربية، التي أدّى بها، تغييب الحريّة والإنتقاد، الى التخلف عن ركب الحضارة والتقدم.

تظهرُ الحضارات وتختفي، وتبقى الحريّة عنواناً للإستمرارية فبها فقط تحفظ الكيانات.

وإذا أُريد للعرب أن يعودوا، وبقوّة، أصحاب الفعل والتفاعل، فما عليهم، كحدٍ أدنى، سوى تأمين الشروط اللازمة، لولادة الحريّة ونموّها، فبهذا فقط، يكونون قد أمّنوا سبيل نجاتهم وبقائهم.

يعتبر آرنولد توينبي، وهو أحد أهم فلاسفة علم التاريخ، أنّ التطوّر مشروطٌ باستجابة البشر للتحديّات التي تواجههم، وبمدى قدرتهم على تأمين حاجاتهم، في ظلِّ تغييرٍ مفاجىء للظروف المحيطة بهم.

فإذا كانت هذه الإستجابة تفاعليّة، إنصهارية، فإن ذلك سيؤدي حتماً الى تطوّرهم ورقيّهم، وفي حال كان الوضع معاكساً وكانت الإستجابة هروباً وتقاعسياً وتقوقعاً، فإن النتيجة ستكون وخيمة وستؤدي الى التخلّف، ثمّ الى الإضمحلال.

إذاً، هناك فعلٌ تاريخي من ناحية، هو (التحدي)، وهناك ردّة فعل بشريَّة من ناحية أخرى، هي (الإستجابة). وهناك أخيراً التطوّر أو الإضمحلال، اللذان سيتحددان من خلال ردّة الفعل وليس من خلال الفعل نفسه.

وتوينبي هنا، يحاكي الديالكتيك الماركسي، ويقدّمه بأسلوبه الخاص.

واعتماداً على هذه النظرية، نستطيع مقاربة وفهم الواقع المأزوم للكيانات العربيّة.

ومن نافل القول أنّ العرب لا ينقصهم شيء من شروط التقدّم، فهم شعبٌ عريق، إستطاع الحفاظ على الإرث الحضاري للشعبين، اليوناني والروماني، وقام بنقله الى أوروبا، مضيفاً عليه من إبداعاته وإنجازاته، الشيء الكثير.

هذا الشعب، يعاني في العصر الراهن أزمةً حضارية ثقافية، تضع مصيره على المحك.

إن واقع العرب المحزن، ليس نتيجة التطوّرات الراهنة والظروف المستجدة، ولكنه نتاج تراكمات عديدة، حفرت عميقاً في العقل العربي، وجعلته عاجزاً عن مواجهة الواقع والتفاعل معه.

فالعقل العربي هو عقلٌ مثالي حالم وليس عقلاً عملياً.