دفعةً واحدة، شربَت الدولة اللبنانية حليبَ السباع، فاتّخذَت التدابير في عرسال على رغم المحاذير، وقرَّرت وقفَ الفوضى في النزوح السوري على رغم الاعتراضات، وامتدّت طاولات الحوار السياسي على رغم العداوات الشرسة. ويعلِّق المطّلعون بالقول: إنّها ليست براعة اللبنانيين. «مرغَمٌ أخاكَ لا بطل»!

الحراك الداخلي الذي ينطلق به العام 2015، على خطّين سياسي وأمني، ليس عفويّاً. فالمجتمع الدولي أوعزَ إلى الوكلاء في الداخل بأن يتدبَّروا شؤونَهم بالتي هي أحسن، وأن يتّخذوا الخطوات الكفيلة بالحفاظ على الحدّ الأدنى من الإستقرار العام. فالأزمات الإقليمية مستمرّة بلا آفاق زمنية، ومطلوب من لبنان عدم السقوط، إلى أن ترتسمَ ملامح التسويات.

كالمعتاد، استجابت القوى الداخلية للرغبات المطلوبة في التهدئة، كما تستجيب هي نفسها للرغبات الإقليمية والدولية في التصعيد عندما تكون مطلوبة. وقد تكون الخطوات الجارية، من الحوار إلى تدابير الأمن والنازحين، كافيةً لمنع الإنفجار الوشيك. ولكن، في المدى البعيد، هل تكفي لمنع سقوط لبنان؟

1- يبدو الحوار السنّي- الشيعي، الذي استتبعَه حوار مسيحي- مسيحي لرفع العتب، مجرّد محاولة لتنفيس الإحتقان، مع أنّ لبنان لن يقوم على تسوية بين المسلمين والمسيحيين- كما كان في الماضي- بل بين السُنَّة والشيعة. فإذا نجحَ الطرفان في إبرام الصفقة، فسيكون سهلاً ضمّ المسيحيّين إليها. وعندئذٍ، يكون لبنان قد تجاوز المأزق.

فلا أرضية سياسية للحوار الدائر اليوم، ولا تسمح الأجواء الصراعية الإقليمية بصفقةٍ مذهبية. وكلّ ما في الأمر أنّه حوار في الشكل لا في المضمون، حيث ينسى كلّ طرف قضاياه الأساسية (السلاح والتورُّط في سوريا والمحكمة الدولية وسواها) ويأتي إلى الحوار للصورة وتنفيس الإحتقان.

وبعد ذلك، ليس مهمّاً إذا كانت هناك نتائج سياسية أم لا.ولذلك، المطلوب من الحوار هو تبريد «الرؤوس الحامية»، وإجبارها على الانصياع لشروط إدارة الأزمة، في الحدّ الأدنى من الأضرار.

2- الخطوات المفاجئة لضبط عملية النزوح السوري لا تتكفّل بإنهاء الأزمة، باعتراف الجميع، بعدما تجاوَز تعداد السوريين في لبنان المليون ونصف المليون نسمة، أي قرابة 40 في المئة من السكّان اللبنانيين.

وهذه النسبة كافية وحدها لإسقاط لبنان الواقف على أرجوحة مذهبية وطائفية دقيقة.
وسيواجه لبنان إستحقاقاً مصيرياً في ملف النازحين، على رغم القرار المتّخذ. لكنّ هذا القرار كفيل بخفض نسبة التدفّق مرحلياً، ما يتيح انتظارَ المخارج.

3- قرَّر الجيش اللبناني، بدءاً من العام الجديد، أن يقطعَ الطريق على صدمة جديدة يتعرَّض لها في عرسال، على غرار «غزوة» آب الفائت، والتي دفعَت المؤسّسة العسكرية ثمنَها شهداء ومصابين ومخطوفين. ويحظى لبنان بغطاء دولي في إجراءاته لمنع الإنفجار في عرسال وتحوّله فتنةً مذهبية. وهناك رصد دولي مباشَر لمنطقة الحدود اللبنانية - السورية منعاً لانفلات الوضع.

لكنّ ظهور الحالات الاعتراضية من داخل البلدة ضد تدابير الجيش يثير الأسئلة: هل إنّ تأثير «داعش» و»النصرة» بات فعّالاً هناك إلى هذا الحدّ؟
ولذلك، يبدو على المحكّ قرار الجيش بمواجهة الإبتزاز والقفز من وضعية المتلقّي إلى وضعية المُبادِر. فهو الجدير بالخطوات المسؤولة، التي تحمي البلد، في ظلّ التخبّط السياسي والإرباك على مستوى القرار السياسي. فهل يمضي أم يحبطه السياسيون، كما في تجارب سابقة؟

هذه المعطيات توحي بأنّ المبادرات السياسية والأمنية التي يستقبل فيها اللبنانيون عامَهم الجديد، والمدعومة دولياً، تلائم إدارة الأزمة، لكنّها لا تبلغ الحلول الشافية. وهي على الأرجح تؤجّل الاستحقاقات المصيرية وتجيِّرها إلى آجال لاحقة، على غرار عمليات «السواب» التي تجرى في القطاع المالي.

وفي استطاعة القوى الداخلية، نظرياً، أن تستفيد من الدعم الدولي لتصنع الحلول الكبرى، وأن تعزل لبنان عن أزمات الشرق الأوسط وبراكينه، ولكن كيف تفعل ذلك إذا كان بعضها يذهب إلى البراكين بمِلء إرادته؟