جلسات غسل القلوب بين «حزب الله» و»المستقبل»، لم تبدأ بالأمس في عين التينة، بل هي انطلقت في عهد الرئيس الشهيد رفيق الحريري واستمرّت إلى أن «انفخت الدفّ وتفرّق العشّاق»، في نهاية العام 2010، حين جلس السيد حسن نصرالله مع الرئيس سعد الحريري، في آخر لقاء بينهما قبل أن ينفرط عقد حكومة الأخير ويعود من أميركا رئيس حكومة تصريف أعمال في مطلع 2011.
نحو أربع سنوات ولم يضع أحد الرجلين عينه في عين الآخر، تلاحقت خلالها التطوّرات حتى كاد لبنان «يدعس» في «زمن داعش». الكثير من الملفّات حتّمت على الطرفين أن يعيدا ما انقطع، وإن على مستوى أقلّ ممّا كان عليه سابقاً.
المسار البياني لحوار الطرفين على مرّ السنوات واضح في تأثيره على الوضع الداخلي، التواصل بينهما أرسى اتفاقات وتفاهمات وشراكات، فيما أدى «هجر» طاولات الحوار إلى إنتاج خصومات وصراعات.. وقطيعة.
أثمرت الجلسات الليليّة الطويلة بين «السيّد» والحريري الأب تهدئة مطعّمة بـ»الثقل السوري» على الوضع الداخليّ، بالإضافة الى صدّ الفتن الآتية من خلف الحدود، بالرغم من أنّه لم يكن لـ»حزب الله»، في حينها، من يمثله في السلطة التنفيذيّة التي ترأسها مراراً «أبو بهاء».
وكان جدول أعمال الحوار بين نصرالله والحريري الأب يتغيّر بحسب الظروف والملفات الطارئة. ولعلّه بدأ من المرحلة الإنمائيّة وتحديداً «مشروع إليسار» الذي كان يهدف إلى حلّ مشكلة إنمائيّة وسكانيّة وديموغرافيّة عند المدخل الجنوبي للعاصمة بيروت، وكان الحريري يردّد دائماً: «إمّا أن أجعل من الضاحية عاصمة ثانية، وإمّا أن العاصمة ستصبح ضاحية ثانية».
وبالرغم من الجلسات الطويلة التي وضع فيها مشروع «إليسار» على طاولة الرجلين، إلا أنّه لم ير النور على الأرض بسبب قلّة الثقة بين الطرفين وعدم معرفة كلّ طرف بنيات الطرف الآخر.
مشروع «إليسار» لم يمض قدماً بل ظل مشروعاً على الورق، فيما بقي الحوار يجمع الأمين العام لـ «حزب الله» بـ «دولة الرئيس»، لمعالجة العديد من القضايا ومنها مثلاً: إطلاق النار على المتظاهرين في طريق المطار من قبل الجيش اللبناني، عقد التحالفات الانتخابيّة والسياسيّة، الصراع مع العدو الإسرائيلي، العلاقات الإقليميّة، مشروع السلام في المنطقة وانعكاساته على لبنان.
الأمر لم يتوقّف عند هذا الحدّ، بل شرع «الحزب» أبواب إيران واسعاً أمام «الشيخ رفيق» في عهد الرئيس محمّد خاتمي، ما أدى إلى سعي الحريري للحصول على مشاريع اقتصادية ضخمة في ايران.
ولكن بعد العام 2003، أضحى الحوار بين الرجلين أكثر عمقاً. فالأزمات لم تعد هامشيّة أو مجرد إنمائية أو محلية الطابع، بل تحوّلت إلى وجوديّة، لا سيّما بعد الغزو الأميركي للعراق. كان الحريري ونصرالله يريان في احتلال «بلاد الرافدين» بداية سيطرة أميركيّة كاملة على المنطقة تؤسس للفتنة السنيّة ــ الشيعيّة. جمع الرجلان الحجج والرؤى ووضعاها على الطاولة أمامهما. كان هدفهما واضحاً: مواجهة «الهبّة الفتنويّة» على المنطقة واحتواؤها في لبنان سريعاً.
توطّد الحوار في ما بعد على وقع صدور القرار 1559، حين انتقلت عيون المجتمع الدولي إلى سلاح المقاومة وبداية التلويح بوضع «حزب الله» على لائحة الإرهاب وطرح إشكالية الوجود السوري في لبنان. آنذاك وضع «السيّد» و «ابو بهاء» يديهما على «الالتهابات السياسيّة» التي بدأ يتعرّض لها لبنان.
صار جدول أعمال جلساتهما السياسيّة متخماً بالأزمات من ارتدادات سيطرة الأميركي على العراق والقرار 1559. وتحوّل الحوار في العام 2004 إلى محاولة لتأسيس شراكة استراتيجيّة، شراكة تبدأ بتحالف انتخابي ثمّ بدخول «حزب الله» في الحكومة للمرة الأولى بعد الطائف.
وبالرغم من ذلك، لم تكن الثقة بين الطرفين قد نضجت تماماً، بل كانت تتفاوت بحسب المواضيع المثارة والظروف المحيطة بطاولة الحوار. غير أن منسوب الثقة بين الطرفين بدأ يتصاعد في تلك المرحلة في المسائل المحليّة والإقليميّة. كان «حزب الله» يرى أن «سمك» المقاومة هو جمهوره ولا سيما أهل المقاومين وهم جميعاً في حوض الحكومة ومسؤوليتها برئاسة الحريري. واذا كان الحزب مسؤولاً عن رجاله ، فإن عوائلهم كانوا في صلب مسؤولية الحكومة وعليها بالتالي تأمين النهضة والاستقرار لهم ولسائر اللبنانيين.
إذاً، خرج الحريري ونصرالله من جلسات الحوار الأخيرة بينهما بمحصّلة ثمينة جداً: اتفاق الشراكة.
]]]
لم يُكتب لاتفاق الشراكة أن ينفّذ «على حياة» الحريري الأب الذي اغتيل بعد أشهر قليلة من هذه الجلسات في نهاية 2004 ومطلع 2005، إلا أن الحريري الإبن تولّى أن يبدأ الحوار مع «حزب الله» من حيث انتهى والده.
وبعد حوالي ثلاثة أسابيع على استشهاد الحريري، جلس «الشيخ سعد» مكان والده في صالون «السيّد»، وبحثا في زلزال الاغتيال وعقد التحالفات للانتخابات النيابيّة المقبلة التي أصرّت الدول الغربيّة المعنيّة على إجرائها في موعدها.
وهكذا، حاك الرجلان «الاتفاق الرباعي» الذي أنتج تحالفاً في صناديق الاقتراع كسب فيها الحريري غالبيّة المقاعد، ثمّ شراكة في الحكومة لتطأ أقدام «حزب الله» أرض «السرايا الحكومية» للمرة الأولى.
وللمرّة الثانية لم يكتب لاتفاق الحريري – نصرالله أن ينفّذ فعلياً، بعد أن صاغه رئيس «المستقبل» وأوكَل أمر تنفيذه إلى غيره. كان واضحاً أن «غيره» اجتهد نصاً تفسيرياً للاتفاق الرباعي يجعل من «حزب الله» رقماً أو طرفاً وليس شريكاً سياسياً.
حاول «حزب الله» في حينه إعادة الحرارة إلى الحوار مع الحريري، وحاول الأخير تفعيل الحوار من جهته، على اعتبار أنّه «الضارب على صدره» لتنفيذه، فدعا «حزب الله» و«حركة أمل» إلى السعودية لترتيب الاتفاق الموعود.
فعلياً كان الحوار في تلك الفترة غير مجدٍ، فالتباين في وجهات النظر ظهر فاضحاً، بعد أن صار «الاتفاق الرباعي» في عهدة «غيره»، كما أنّ التطورات تلاحقت إلى أن جاءت حرب تمّوز ثمّ موقف «حزب الله» من المحكمة الدوليّة، بعد إجهاض محاولة الوزير بهيج طبارة في تقديم مشروع خطي للمحكمة كما اتفق مع «حزب الله» قبل أن تقع جريمة اغتيال جبران تويني.
وبالتالي انحصرت انعكاسات الحوار المتقطّع بتنفيس الاحتقان من دون معالجة المسائل الخلافيّة، حتى انقطع التواصل بين «السيّد» و «الشيخ سعد»، ليتمظهر الصراع في انسحاب «حزب الله» و «أمل» من الحكومة في 2007، ثم انتقال التباين إلى الشارع.
بعد 7 أيّار 2008، توسّع الحوار، وانتقل المعنيون إلى قطر، حيث صيغ اتفاق الدوحة. وعاد «الحزب» و «المستقبل» من هناك برغبة في إعادة الروح إلى تواصلهما. هذه المرّة، جلس الرجلان في المكان نفسه.. وحدها الثقة كانت مفقودة تماماً بينهما.. وسرعان ما أدرك الحريري ونصرالله أنّ جلسات التواصل من دون عامل الثقة، لن يكون بمقدورها أن تلملم الجراح التي انتابت علاقتهما خلال حرب تمـوز وما قبلها وما بعدها (7 أيّار).
ومع ذلك، استمرّ الحريري بالتوجّه إلى مكان إقامة الأمين العام لـ»حزب الله»، حتى سقطت حكومة «الشيخ سعد» بضربة قاضية من «الحزب» و «الحركة» في كانون الثاني 2011، ومن ثمّ تأليف حكومة نجيب ميقاتي بـ «قفازات جنبلاطية»!
]]]
اليوم يتجدّد الحوار. ولكن ماذا تغيّر منذ 4 سنوات حتى يراهن البعض على أن حوار «حزب الله» و «المستقبل»، الذي فشل في الكثير من الأوقات في عهد الحريري الإبن، سينجح اليوم؟
الحريري ونصرالله لن يجلسا معاً، والثقة بين الطرفين تحتاج الى جهود كبيرة. والفتنة السنيّة ــ الشيعيّة التي يريدان صدها بالتواصل أوّلاً، مصدرها خارجي أصلاً وجمرها محلي، وعليه، يرى البعض أن هذا التواصل لن يختلف كثيراً عن الحوارات التي عقدت سابقاً، والتي كانت أشبه بـ «مرهم» على سطح الجرح، من دون علاجٍ ناجح، أو عملية جراحية.
غير أن ذلك لا يدحض أن الحوار، أي حوار بذاته هو فعل إيجابي بالمطلق ولا بد منه في الحالة اللبنانية، وإن طال البعد والسفر.