قبيل مُغادرته إلى باريس، سَخر رئيس "الحزب التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط من التحاليل الصحافية التي تحدّثت عن لقاءات مُهمّة سيعقدها في فرنسا، وشدّدت مصادره على أنّ زيارة العاصمة الفرنسية هي لأسباب خاصة (قيل أيضاً إنها لأسباب طبّية)، ولا تتضمّن مواعيد سياسيّة. لكن لماذا تأخذ إتصالات جنبلاط أهمّية مُضاعفة، وهل هو فعلاً "بيضة القبّان" أم ليس كذلك، كما قال الأسبوع الماضي؟
إنّ الإنقسام السياسي العمودي في لبنان، بين قوى "8 آذار" و"التيّار الوطني الحرّ" من جهة، وقوى "14 آذار" والقوى الوسطيّة المحسوبة عليها، جعل "جبهة النضال الوطني" التي يرأسها جنبلاط "بيضة قبّان" أكيدة، حتى لو لم يُقرّ رئيس "التقدّمي" بذلك. وبكل بساطة إنّ عدد النوّاب المحسوبين على جنبلاط قد يكون كافياً للحصول على 65 صوتاً نيابياً، وبالتالي لوصول العماد ميشال عون إلى منصب الرئاسة، في ما لو إلتزمت كلّ القوى المَحسوبة على "8 آذار" بالتصويت له، خاصة أنّ قوى "14 آذار" صارت أسيرة مواقفها السابقة الرافضة لمقاطعة جلسات إنتخاب رئيس الجمهورية، وهي مُلزمة أخلاقياً بتأمين نصاب الثلثين القانوني لأي جلسة إنتخاب، بعكس قوى "8 آذار" التي تصرّ على المقاطعة بحجج لم تُقنع الكثيرين بدءاً بالبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي نُزولاً. إذاً، التعبير الأصحّ هو أنّ الزعيم الدرزي لا يريد أن يكون "بيضة القبّان" حتى لو أنّه في الواقع يمكنه أن يلعب هذا الدور في أيّ جلسة إنتخاب رئيس، ومنها بطبيعة الحال جلسة يوم الخميس في التاسع من الشهر الحالي. والسبب خوف مُتعدّد الأوجه يُكبّل حركته ومواقفه، نتيجة المشاكل والضغوط التي تواجهها الطائفة الدرزيّة. وفي هذا السياق يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: إنّ رئيس "الإشتراكي" غير مُستعدّ على الساحة الداخليّة لخسارة تحالفه الإنتخابي مع "تيّار المستقبل"، خاصة في الشوف عبر ثقل أصوات "إقليم الخرّوب". كما أنّ خسارته أصوات مسيحيّي تحالف "14 آذار" لكسب أصوات مسيحيّي تحالف "8 آذار" لا يفيده بشيء على الإطلاق. وكذلك الأمر، إنّ مجاراة الجهات السياسية الداعية إلى أن ينتخب كل مذهب نوّابه، يجعله ينافس باقي الأطراف الدرزيّة على ثماني مقاعد في كل لبنان. وبالتالي، الحسابات النيابية الداخلية، وحسابات الزعامة المحلّية، لا تُشجّع جنبلاط على لعب دور "بيضة القبّان" على الإطلاق.
ثانياً: إنّ رئيس "الإشتراكي" غير مُستعدّ في الوقت عينه، وبنتيجة التطوّرات الإقليمية، أن يكون طرفاً في المواجهة المذهبيّة-السياسية القائمة في المنطقة، في محاولة للنأي بالطائفة الدرزيّة عن إرتدادات هذا الصراع، لذلك نجده يتحدّث عن أحقّية العماد عون في الترشّح إلى الرئاسة من دون أن يكون مُستعدّاً لإيصاله عملياً، ونجده يرفع من مستوى التنسيق والتعاون مع "حزب الله" ويُخفّض سقف إنتقاداته للنظام السوري ولتدخّل "الحزب" العسكري في سوريا، لكن من دون أن يبلغ مرحلة التحالف المُثمر على حساب علاقاته مع "تيّار المستقبل". ويُمكن القول إنّ جنبلاط يُمارس حالياً السياسة الرمادية التي لطالما برع فيها، مُخفّضاً سقف مواقفه إلى الحد الأدنى.

ثالثاً: يُواجه رئيس "الإشتراكي" مُشكلة إقليمية تتمثّل في طبيعة الإنتشار الجغرافي للطائفة الدرزية في المنطقة في ظلّ التحوّلات الأمنية المُتسارعة، بحيث أنّ تمدّد تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا، وضع دروز سوريا الأكثر عدداً مقارنة بالإنتشار الدرزي في مختلف دول العالم تحت وطأة ضغط أمني ووجودي كبير. وإنتشار جبهة "النصرة" والقوى المتحالفة معها على الحدود السورية-الإسرائيليّة، عرّض منطقة جغرافية واسعة لخطر الإنفجار الأمني الذي قد يطال مناطق لبنانية حدودية مختلفة نتيجة التداخل الجغرافي مع مناطق مُحتلّة وأخرى متنازع عليها. والمشكلة أنّ أيّ تهديد لدروز سوريا في الجولان والمحيط، قد يستجلب دعماً لهم من دروز إسرائيل، وهذا الأمر سيضع دروز لبنان في موقف حرج، بحيث لا يُمكنهم القبول بالتنكيل المُحتمل لدروز الجولان، ولا يُمكنهم أيضاً القبول بأيّ دعم عسكري بغطاء من إسرائيل التي تطمح إلى إقامة منطقة عازلة واسعة في المنطقة الحدوديّة مع سوريا، مع ما قد يستجلبه هذا الأمر من ردّات فعل من الجيش السوري ومن "حزب الله". وبالتالي إنّ رئيس "الإشتراكي" يُحاول السير في حقل ألغام إقليمي خطير، مُتمنّياً أن لا تورّطه الأحداث في المنطقة، وأن لا تضعه في خيارات صعبة أحلاه مُرّ.
في الخلاصة، إنّ رئيس "جبهة النضال الوطني" هو "بيضة قبّان" وأكثر، لكن الأحداث الإقليمية تفوق نفوذه وتُقلّص محاولاته قيادة الطائفة الدرزيّة، وتُقيّد أيضاً حركته الداخليّة مع إبقاء هامش محدود للمناورة والمراوغة. ويمكن القول إنّ جنبلاط "بيضة قبّان" وأكثر... لكن مُكبّلة بالخوف!