لا يمكن لمن راقب معركة عين الشمس وامتداداتها نحو جرودبريتال أن يعصمها عن إرادة واضحة عند من هاجم بإحراق البقاع الشماليّ بأتون الصدام المذهبيّ، والأرض اللبنانيّة تبقى جزءًا من هذا المشرق الملتهب بأتونها المضطرم حتّى إشعار آخر.
لم تكن تلك المعركة مفاجئة ولا صادمة لأحد، سياسيًّا كان أو مراقبًا، ذلك أنّ معظم القراءات السياسيّة ساد أصحابها الاعتقاد الصائب، وبالمعيار التكتيكيّ واللوجستيّ بأنّ المسلحين التكفيريين، الرابضين في تلك الجرود الجرداء، لا يملكون قدرة الصمود، بسبب المناخ المهيمن في فصل الشتاء، وتاليًا، هم محشورون ما بين الهروب باتجاه عرسال أو جبال القلمون، فجاءت المعركة هذه محاولة لفك طوق العزل. غير أنّ "حزب الله" أظهر، وبحسب بعض المراقبين، قدرة متفوقة، يجب قراءتها بحكمة وعقلانيّة وتجرّد، من قبل معظم المكوّنات اللبنانيّة، ليكتشفوا، والكلام لسياسيّ مخضرم، بأنّ "الحزب بات ضرورة استراتيجيّة لجميع اللبنانيين" بثقافته النضاليّة المتجذّرة بالإخلاص التام لفلسطين ولبنان وسوريا، وبعقيدته غير المنحصرة بالحروفيّة الصمّاء والقاتلة، بل المنسوجة بخيوط الاجتهاد، والذي يبيح انكشاف ذلك الصمود باتجاه كلّ الآفاق.
لم يشأ السياسيّ المخضرم الاعتبار بأن الضرورة الاستراتيجيّة تبطل دور الجيش في حماية الأراضي اللبنانيّة، سيّما وأنّ "حزب الله" مؤمن بضرورة أن يتكوّن النظام السياسيّ من تلاقح معظم المكوّنات برؤى جديدة تعيد الاعتبار بدقّة إلى التوازن المفقود. والحزب، وبقراءة ذلك السياسيّ، مؤمن بضرورة التكامل مع الجيش ومع سائر القوى السياسيّة بوجه هذا التنظيم الخطير المزروع في خاصرتنا لتفتيتنا، ويرفض الانجرار نحو معركة مذهبيّة في الداخل اللبنانيّ، وإن كانت موازين القوى فيها حاسمة، ولكن تداعياتها وتكاليفها خطيرة في البنية اللبنانيّة لكونها بيبئة ناشئة من تراكم كمّي يبقيها قيد التمزّق العميم. لكنّ المعركة التي حصلت في جرود بريتال، والتي تصدّى لها "حزب الله" بقوّة، زكّت، بالمعنى الأمنيّ-السياسيّ، مفهوم الخواء في مواقع سياسيّة لا تجيد سوى التغرغر بعبارات خروج الحزب من سوريا، بلسان خشبيّ مملّ حتّى تنتهي مسألة "داعش". وفي هذا الاتجاه بدا كلام وزير الداخليّة نهاد المشنوق بما يمثّل سياسيًّا لافتًا بدقّته وواضحًا بآفاقه بتوصيفه وجود "داعش" كمًّا ومضمونًا، وبعدم إلقاء تبعيّة وجوده على "حزب الله" في قتاله بسوريا، إذ اعتبر بأنّ التنظيم موجود في لبنان سواء دخل الحزب أو لم يدخل سوريا.
يؤول هذا الواقع إلى فهم دقّة المرحلة بالمعنى التكوينيّ للكلام. فعلى مستوى المدى اللبنانيّ وجود هذا التنظيم في لبنان وحراكه في مناطق محسوبة على حالة طائفيّة يؤهّل الأرض لفتنة واضحة. تتساءل بعض المصادر السياسيّة، إذا ما كان الجيش اللبنانيّ وبعد الذي حصل في عرسال لا يزال على قدرة واسعة لكي يستأصل هذا التنظيم من كعبه. وتذهب المصادر عينها بالتساؤل حول دور المعتدلين في الطائفة السنيّة على المواجهة الفعليّة. لقد طرح مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة الشيخ عبد اللطيف دريان في خطبة عيد الأضحى، مسلّمة واضحة تؤرق كثيرًا المسلمين وبخاصّة السنة المعتدلين في قوله بأنّ "الأعمال الصالحة إذًا هي الشاهد الذي لا يكذب على صحة الإيمان وجديته. وما نشهده اليوم من فظائع باسم الدين وباسم الإيمان، دليل لا يكذب أيضا على أن الذين يقومون بهذه الفظائع والكبائر ما عرفوا من الإيمان إلا اسمه، ولا امتحنوا علاقتهم بمولاهم عز وجل، ولا بعباده سبحانه وتعالى بالخير والعمل الصالح، بل كذبوا إعلانهم أو إعلاناتهم عن الإيمان بالفجور وأعمال السوء والشر، قال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} (سورة الحج، الآيتان: 103 و 104)". ومن أخطر ما قاله في هذا السياق عينه: "ديننا مهدد من الداخل مثلما هو مهدد من الاستهداف الخارجي. وأوطاننا مهددة من الداخل بسبب أوهام الغلبة والانقسامات مثلما هي مهددة من الخارج. ودولنا مهددة من الداخل بقدر تهديدها من الخارج". ألا تحضّ مسلمة المفتي دريان المسلمين السنة لمواجهة هؤلاء؟
استنادًا إلى وقف المفتي دريان المتقدّم في قراءته لهذا التنظيم ولما يمثّله من خطورة واضحة، يتّضح شيئًا فشيئًا، باتساع المواجهة بمعناها الواسع. لم تعد المسألة بين جبل سنيّ يقتحم جبلاً شيعيًّا في المقلب الآخر كما حصل في معركة عين الشمس وبريتال، بل غدت، فقهيًّا وسياسيًّا في البيت الواحد. فالمسلمون المنطلقون من المعنى الذي انطلق منه المفتي دريان وآخرون يأبون كلّ خطاب دينيًّا كان أو سياسيًّا أو أمنيًّا "لمن يرتكبون باسم الدين الفظائع وما عرفوا منه إلاّ اسمه"، كما قال المفتي دريان. ويسأل مصدر متابع: هل يعصم موقف المفتي دريان المتقدّم بعض السياسيين وبعض الأئمة عنده من الاحتضان الواضح في طرابلس وعكار وسواهما للتكفيريين لتبقى ورقة استثمار سياسيّ واضح المعالم والأفق؟
الموقف السياسيّ للقادة الروحيين في الطائفة السنيّة يشكل رافعة واضحة للجيش لقمع هؤلاء. إنها ليست حربًا في الدائرة الإسلامية بل هي حرب وطنية بامتياز، ويبقى موقف الطبقة السياسيّة وبخاصّة موقف بعض قوى الرابع عشر من آذار، الاستثماريّ لتلك الورقة، والذي يمنع الجيش من المواجهة، وهو موقف مرتبط بإطار الصراع الممتدّ من اليمن إلى العراق وسوريا، فيلحّ مصدر آخر بالسؤال عن سرّ التناقض القائم في المملكة العربيّة السعوديّة إذ تدعم قولاً اللبنانيين وتبدّل فعلاً من حيث عدم إطلاق الجيش اللبنانيّ في ضرب الإرهاب وحجب المساعدات عنه انطلاقًا من استئخارها واستثمارها، فيما هي منخرطة بالحرب الدولية ضد الإرهاب.
أمّا الكشف الآخر والأخير المرتبط بحدث المعركة فموصول بقدرة هذا التنظيم على المواجهة في ظلّ حرب دوليّة عليه. فلا بدّ وفي هذا الاصطفاف التحليليّ، من الإضاءة على تساؤل يشير فحواه إلى عدم الجديّة الواضحة في تلك الحرب الدوليّة، وتنطلق الفحوى نحو مدينة عين العرب، حيث أحكم الداعشيون السيطرة في ظلّ الحرب الدولية عليهم، وهجّروا الأكراد منها، ولم يصدر موقف من أرباب هذا التحالف بالحدّ الأدنى ولا هم ساهموا بصدّهم واستعادة تلك المدينة. ألا يشبه ما حصل في عين العرب ما حصل في عين الشمس؟ وباختصار واضح، إن الأرض المشرقيّة لا تزال معدّة لعمليات فرز وتجميع بقبضة داعشيّة وإشراف دولي التبس وجوده في المعركة. ولكنّ الفرق أن معركة عين الشمس أظهرت أن المدى اللبنانيّ لا يزال صلبًا على الرغم من الإفرازات المذهبيّة الحاضنة، و"حزب الله"، الذي استبسل في القتال في سوريا واستبسل في معركة عين الشمس، وكما قال السياسيّ المخضرم، لا يزال ضرورة استراتيجيّة لجميع المكونات اللبنانية، وموقف المفتي دريان بصورة غير مباشرة كما موقف رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط الشديد الوضوح، يشي بذلك لكون لا أحد يملك القدرة على المواجهة أكثر من "حزب الله"، وللأيام أن تثبت هذا الواقع.
 جورج عبيد : النشرة