يوم الأربعاء الماضي (27 آب) عقد مجلس البطاركة لقاء استثنائياً في بكركي أطلق خلاله صرخة الألم التالية:

 

"لا يمكن أن تستمر الدول ولا سيما العربية والإسلامية منها صامتة ومن دون حراك في وجه "الدولة الإسلامية ـ داعش" ومثيلاتها من التنظيمات الإرهابية التكفيرية. فهي مدعوة إلى إصدار فتوى دينية جامعة تحرم تكفير الآخر إلى أي دين أو مذهب أو معتقد انتمى، وإلى تجريم الاعتداء على المسيحيين وممتلكاتهم وكنائسهم في تشريعاتها الوطنية، وتحريك المجتمع الدولي والهيئات لاستئصال هذه الحركات الإرهابية بجميع الوسائل التي يتيحها القانون الدولي".

 

بحثت عن رد الفعل العربي على هذه الصرخة في صحيفتين عربيتين أحرص يومياً على الاطلاع عليهما: "الشرق الأوسط" و"الحياة".

 

في الجريدة الأولى لم أعثر على أي رد فعل. بل ان الجريدة لم تشر إلى خبر لقاء المجلس أو إلى بيانه، من قريب أو من بعيد.

 

أما الجريدة الثانية، فقد نشرت خبر اللقاء في الصفحة الخامسة تحت العنوان التالي: "بطاركة الشرق: انتخاب رئيس للبنان واجب قبل أي قرار بالاستحقاق اللبناني".

 

لا شك في ان العنوان صحيح ويغطي جانباً من بيان المجلس. غير أن ألم البطاركة هو في مكان آخر. والصرخة التي أطلقوها تدوي في واد آخر.

 

لقد أعرب مجلس البطاركة عن اعتقاده أنه "بات معروفاً وموثقاً أن الاعتداء على المسيحيين في العالم اليوم يأخذ منحى خطيراً يهدد الوجود المسيحي في كثير من الدول ولا سيما في العالم العربي وبشكل أخص في مصر وسوريا والعراق، حيث يتعرض المسيحيون في هذه البلدان لاعتداءات وجرائم بشعة تحملهم على الهجرة القسرية من أوطانهم، التي هم فيها مواطنون أصليون وأصيلون منذ ألفي سنة، فتحرم المجتمعات الإسلامية والعربية من ثروة إنسانية وثقافية وعلمية واقتصادية ووطنية كبرى".

 

لكن، هل ما بات معروفاً وموثقاً لدى مجلس البطاركة، معروف وموثق في العالم العربي؟.. وهل العالم العربي يدرك فعلاً فداحة الثروة الإنسانية والثقافية والعلمية والاقتصادية والوطنية الكبرى التي يخسرها من جراء اضطرار المسيحيين العرب للهجرة؟

 

إن ما لم يذكره مجلس البطاركة في بيانه هو فداحة الخسارة التي يتعرض لها الإسلام نفسه من جراء هذه الهجرة المسيحية. ذلك ان الهجرة القسرية في ذاتها ترسم صورة قبيحة وغير صحيحة عن الإسلام. من المعالم المباشرة لهذه الصورة المشوَّهة الجرائم التي ترتكب باسم الإسلام بحق المسيحيين كما جرى في الدول الثلاث تحديداً التي ذكرها بيان المجلس، وهي العراق وسوريا ومصر.

 

ومن معالمها غير المباشرة تصوير الإسلام من خلال الهجرة المسيحية القسرية كأنه دين يرفض الآخر. ومن شأن ذلك أن يطرح أمام المجتمعات الأجنبية المختلفة السؤال التالي: "إذا كان الإسلام يرفض الآخر، فكيف يمكن ان نتعايش مع المسلمين الذين هاجروا إلى مجتمعاتنا وأصبحوا يتمتعون بحقوق المواطنة في دولنا؟"، علماً بأن ثلث مسلمي العالم البالغ عددهم مليارا و600 مليون نسمة، يعيشون في دول ومجتمعات غير إسلامية!

 

من حيث المبدأ لا يمكن للمسلمين أن يطالبوا بالشيء وأن يرتكبوا عكسه في وقت واحد. لا يمكن لهم ان يطالبوا بحقوق المواطنة في الدول الأجنبية التي يهاجرون إليها وان يحجبوا هذه الحقوق عن أهل البلاد الأصليين في الدول التي يشكلون فيها أكثرية عددية. لا يمكن أن يتعايشوا في الدول التي يشكلون فيها أقليات عددية والتي تعتمد أنظمة تفصل بين الدين والدولة، وان يصروا على رفض مثل هذا الفصل في الدول التي يكونون فيها الأكثرية العددية. فالقضية المبدئية لا تتغير مع تغيّر النسبة العددية. فهم مسلمون مؤمنون في الدولة المدنية غير العربية وسيبقون مسلمين مؤمنين في الدولة المدنية العربية.

 

ومن هنا فإن مجلس البطاركة كان على حق عندما قال في بيانه: "لكي تتمكن دول الشرق الأوسط من أن تنعم بسلام عادل وشامل ودائم، ينبغي عليها، أن تعمل على فصل الدين عن الدولة وقيام الدولة المدنية".

 

وبانتظار ان تنضج هذه الدعوة البناءة، وبانتظار أن يقوى عودها لشق الطريق إلى المستقبل الموعود، فإن جمار التكفير العشوائي التي تحرق الأخضر واليابس في أرض الوفاق الوطني تزداد اضطراماً يوماً بعد آخر وسط صمت عربي إسلامي غير مبرر وغير مفهوم.

 

لقد حمّل مجلس البطاركة الدول العربية والإسلامية مسؤولية النتائج الخطيرة المترتبة عن الصمت عن الجرائم التي تُرتكب باسم الإسلام وباسم الدفاع عنه. وقال المجلس: "لا يمكن ان تستمر الدول وخصوصاً العربية والإسلامية صامتة ومن دون حراك في وجه "الدولة الإسلامية ـ داعش" ومثيلاتها من التنظيمات الإرهابية التكفيرية التي تتسبب بإساءة كبيرة إلى صورة الإسلام في العالم".

 

وللخروج من هذا الصمت كانت دعوة مجلس البطاركة الدول العربية والإسلامية إلى "إصدار فتوى دينية جامعة تحرّم تكفير الآخر إلى أي دين أو مذهب أو معتقد انتمى، وتجرّم الاعتداء على المسيحيين وممتلكاتهم وكنائسهم في تشريعاتها الوطنية".

 

إن الاستجابة لهذه الدعوة لا تتوافق فقط مع حقوق المواطنة، ومع حقوق الإنسان، لكنها تتوافق أيضاً وقبل ذلك، مع الإسلام شرعة ومنهاجاً.

 

ذلك ان الإسلام لا يقول فقط بحرية الإيمان (لا إكراه في الدين) (ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (لكم دينكم ولي ديني)، لكن الإسلام يؤمن بالمسيحية رسالة من عند الله. ويشكل الإيمان بهذه الرسالة أساساً في العقيدة الإسلامية لا يكتمل إلا بها. ولذلك فإن الإسلام يعتبر الكنائس من "بيوت الله التي اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه"، ما يعني ان الاعتداء عليها هو اعتداء على الإيمان بالله.

 

من هنا فإن الاستجابة لطلب إصدار فتوى تحرّم الاعتداء على المسيحيين وممتلكاتهم وكنائسهم تعكس "أضعف الإيمان". أما الإيمان الأقوى فيقول بالمساهمة الإسلامية في إعادة بناء ممتلكات المسيحيين وخاصة كنائسهم أسوة بما دعا إليه النبي محمد (عليه السلام) في عهدته إلى مسيحيي نجران.

 

لا شك في ان من أهم ما تضمنه بيان مجلس البطاركة هو دعوة مسيحيي الشرق إلى التجذر في أرضهم وإلى التمسك بأوطانهم، ذلك ان الهجرة تعني الاستسلام لمشيئة المجرم. وتسهيل الهجرة ولو تحت عناوين إنسانية، هو تواطؤ مع المجرم ومع جريمته المنكرة. لكن التصدي لفتنة التهجير، تحمّل المتضررين منها، وفي مقدمتهم المسلمون، مسؤولية التصدي العملي لهذه الفتنة وللعاملين عليها.

 

ليست مسؤولية المجتمع الدولي إعادة توطين المسيحيين المهجرين في دول جديدة، بل المساعدة على منع تهجيرهم وتثبيت أقدامهم في أوطانهم.. وليست مهمته احتواء آثار الجريمة، بل منعها من الأساس. وذلك لا يتحقق إلا بكسر شوكة الإرهابيين التفكيريين. وفي الحسابات الأخيرة، فإن المسلمين والمسيحيين في خندق واحد وفي مواجهة عدو واحد. وتفرض هذه المواجهة على المسلمين تحديداً واجباً أخلاقياً ووطنياً وإنسانياً ودينياً بإعلان الفتاوى التي طالب بها مجلس البطاركة، ليس فقط استجابة لطلب المجلس، لكن قبل ذلك استجابة لما يقول به الإسلام نفسه.