ينهى القرآن الكريم عن حوارات الإلغاء وحوارات الإملاء وحوارات الزخرف من القول الذي لا ينفع الناس ولا يمكث في الأرض
ولكي لا يكون الحوار على حساب جوهر الحق والحقيقة يدعونا القرآن الكريم إلى تحرير الحوار من عصبيات العناد والجهل والتجاهل والمماراة المتشرنقة حول إثبات الذات.
إن وظيفة الحوار تنطلق من مبدأ التشارك في استثمار حرية الرأي لمصلحة قيمة التناصح بين الناس وأثرها في إنجاز الشروط الموضوعية لكل تغيير أو إصلاح ولن يتيسر ذلك إلا باعتماد الصدق والمكاشفة والتزام الأمانة على محورية الوطن الذي يتسع للجميع.
ولكي لا ينتهي الحوار إلى تأجيج نزعة الحرب والعداوة فإن الحكمة عند إنهاء الحوار عند نفقه المسدود هو إعلان حالة التمايز على قاعدة الحق بالاختلاف: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» - [الكافرون: 6] – «لي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41]».
ما يعني من هدي الآية المباركة أن يتحمل كل فريق مسؤولية خياراته وقناعاته من دون أن يستتبع ذلك شيء من البغي والظلم وإيذاء الطرف الآخر في حقوقه وحياته الكريمة بمثل ما يرويه القرآن الكريم عن أبي لهب وامرأته حمالة الحطب ولا محرمات في الحوار من منظور الفقه الإسلامي إلا في حالتين:
إحداهما: أن نحتكم إلى مرجعية العدو فيما هي الحقيقة والصواب
ثانيهما: أن يرتمي الحوار في أحضان الأجنبي فيبدأ من مقدمات فاسدة ولا ينتهي إلا بفساد النتائج.
ومن أدب القرآن في مخاطبة – الطغاة – مجانبة الاستفزاز والازدراء فيما يظهر من قوله تعالى لموسى وهارون: «اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» - [طه: 43 - 44].
ذلك أن القيمة الموضوعية لأثر الحوار في إنتاج المعرفة تستدعي توفير عنصر الثقة والاحترام في إرسال الكلام واستقباله بين طرفي المجادلة بهدف الإقناع والاقتناع , وفي ذلك تبدو نظرية البحث عن الحقيقة مصفاة لتطهير النيات المهمومة بطلب الحق: «قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» - [القصص: 49].
وليس من هدف الحوار الوطني من منظور قرآني مغالبة الخصم وتسجيل النقاط عليه بمنزع المماحكة والمغالطة وأكاذيب الافتراء , وليس من هدف الحوار أن يكون حواراً في حلبات الغرائز ومصارعة الخصوم بمقذع الشتائم والسخرية لأن الرفق في الاحتجاج هو مرآة الخلق الإسلامي الذي يتطلع إلى تحويل الأعداء إلى أصدقاء بأدب التي هي أحسن.
«ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» - [فصلت: 34].
ولنا أن نقتدي بمناظرات الأنبياء لتوكيد الغايات المعرفية النبيلة من كل حوار من دون أن يعني ذلك التسامح في نقد الخطأ والضلال , وفي سيرة خاتم الأنبياء محمد (ص) نستلهم منهجين من مناهج أدب الحوار وأخلاقه:
أحدهما: الاحتكام إلى مرجعية العقل: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ» - [سبأ: 24].
وثانيهما: الانطلاق من قيم الأفكار المشتركة بوصفها مرتكز التوحيد إلى كلمة سواء: «تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» - [آل عمران: 64].