ما إن اقترب وقف النار في الحرب الإسرائيلية على غزة حتى اشتعلت في لبنان- عرسال وطرابلس. استولى مسلحون متطرفون قادمون من سورية والعراق على البلدة اللبنانية المحاذية للقلمون السوري، وخرج أنصارهم في أحياء طرابلس الداخلية يؤازرونهم بالتظاهرات وإطلاق النار على الجيش وقوى الأمن.

 

لم يكن أمام الجيش سوى تلبية طلب أهل عرسال تحريرها من المحتلين المتطرفين، فأرسل وحدات من النخبة، وقدم شهداء وجرحى في حرب مفتوحة على غير احتمال.

 

لكن السياسيين لم يتحلوا بشجاعة الجيش ومبادرته، وقد توقع المواطنون الحسنو النية أن يجتمع مجلس النواب فوراً بدعم من الزعماء المتصارعين جميعاً وينتخب رئيساً للجمهورية، في ردّ وطني على القوى الواضحة والغامضة التي تريد إلحاق لبنان بخريطة الخراب المشرقية وباحتمالات التفتيت عبر القتل الأعمى وتهديم ما بنت الدولة الحديثة.

 

سقط السياسيون اللبنانيون في الامتحان ولم يتحلّوا بوطنية رجالات الإستقلال الذين استغلوا انشغال الانتداب الفرنسي بالحرب العالمية الثانية، فأعلنوا استقلال لبنان في تشرين الثاني 1943 مرغمين فرنسا على الإعتراف.

 

 

قائد الجيش طلب التعجيل بإرسال دفعة من السلاح الفرنسي الذي سبق أن موّلته المملكة العربية السعودية بمنحة ملكية قيمتها ثلاثة بلايين دولار، لأن العدة التسليحية للجيش قليلة وقديمة إذا قورنت بسلاح "داعش" الأميركي المتطور الذي تركته قطعات الجيش العراقي المنسحبة من الموصل. يبذل الجيش وسعه، لكن السياسيين لا تمنعهم المرحلة الصعبة من الاسترسال في سجالات طائفية، وهم يعزون هذه السجالات إلى أجواء حلفائهم الإقليميين، فيما الإقليم يجمع على إبقاء لبنان بعيداً من الحريق السوري، على رغم تدخل "حزب الله" عسكرياً في الدفاع عن نظام الأسد واندراج متطوعين لبنانيين في المعارضة السورية المسلحة.

 

أيدي اللبنانيين على قلوبهم أمام الأحداث الخطيرة في عرسال وطرابلس، لكن المجتمع اللبناني لم يُسلِم قيادَه نهائياً لمناكفات السياسيين ولتخريب المسلحين العبثيين، ففي وطن الأرز زادٌ من التماسك والوعي لم ينفد بعد، ولم يفقد المواطن اللبناني عقله مستجيباً للعبة الطائفية العقيمة، فتراه يحرك مسيرة العمل والإنتاج ويعي مشتركاته الكثيرة التي تعمّد ويتعمد إهمالَها دعاة التفريق وراسمو الحدود المصطنعة بين المناطق والطوائف.

 

والحال أن أحداث عرسال وارتداداتها في طرابلس هي اختراق لحدود لبنان ومحاولة لفتحها على مساحات شاسعة قضمها "داعش" من سورية والعراق، بما يفكك الكيان اللبناني ويدخله في احتمالات الخرائط التجريبية الجديدة.

 

ولن يكسب "داعش" أرضاً لبنانية، فالجهات التي أوقفت اختراق مقاتليه مدينة كسب الساحلية السورية وأرجعتهم إلى تركيا، قادرة على طردهم من لبنان، لأن حسابات القوى الكبرى لم تلحظ وجوداً داعشياً على ضفة المتوسط الشرقية القريبة من أوروبا.

 

وإذا كان "السلطان" رجب طيب أردوغان الذي تنسب إليه رعاية "داعش" يرى في خراب المشرق استدعاء لجيشه العثماني الجديد، فاللبنانيون، خصوصاً المسلمين، لم ينسوا الشيخ أحمد طبارة (إمام جامع النوفرة في وسط بيروت التجاري) الذي أعدمه القائد العثماني جمال باشا مع غيره من المناضلين من أجل استقلال لبنان وحداثته، وذكرى الشيخ حاضرة في ضمائر المسلمين اللبنانيين، شركاء الميثاق الوطني وأقرب مسلمي العالم إلى الانفتاح على الآخر المختلف.