وقائع تاريخية عن صراع الحضارات:

ولكن الواقع يكذب كل هذه الافتراضات إن العدوان في الحقيقة هو في الاتجاه الآخر، في اتجاه العالم الإسلامي، فمنذ 1798 حتى عام 1953، تعرض العالم الإسلامي الى الكثير من الهجمات العدوانية من طرف الغرب أشهرها الحروب الصليبية التي أشعلها الباباوات وطلائع الاستعمار الغربي وحملة نابليون على مصر والعدوان الثلاثي عليها سنة 1956، وقد تضاعفت هذه الهجومات بعد حرب الخليج الثانية بشكل ملفت وخطير ينذر بحرب حضارية حقيقة لا أحد يتوقع عواقبها ونتائجها المدمرة.

إن استقراء أحداث التاريخ الماضي توضح لنا طبيعة العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وتعكس بجلاء " أن لغة الصراع ومنطقه كانت هي اللغة السائدة في التعامل بين الحضارتين منذ ظهور الإسلام وخروجه من الجزيرة العربية لتبليغ الرسالة الإسلامية باعتبار أن الإسلام رسالة عالمية" وأن ما يحدث اليوم هو تتويج للمحاولات التي بدأتها القوى الغربية في القرن الماضي، ولا يعدو الأمر الآن أن يكون سعيا أميركيا لفرض منظومة قيم خاصة ونمط حياة على العالم أجمع دون فسح المجال لأي نوع من أنواع التفاعل الحضاري والثقافي والفكري والاقتصادي بمبررات واهية تدعي أن صراعات العالم المستقبلية سيتحكم فيها العامل الحضاري. واذا كان هذا هو التفكير الغربي/الأميركي وهذه هي ملامحه وأشكاله ومظاهره واستراتيجيته فإن صدامه مع الآخرين سيكون حتميا، ليس بالتأكيد أن يكون الإسلام والمسلمين بل الإنسانية جمعاء، لأنه في الواقع صراع بين الخير والشر، وسيتحد العالم أجمع لمقاومة هذا الفكر وهذا ما تلمس مراحله في ما نعاصره من تطورات وإحداث(1).

والغريب في الأمر أن الفكر السياسي الغربي الذي أفرز ذلك المفهوم الجديد للعولمة حتى رأى فيه بعضنا عودة للظاهرة الاستعمارية من الباب الخلفي هو الفكر السياسي الغربي نفسه الذي تحدث عن صراع الحضارات، ويكاد اليوم ينقله من إطاره الفكري إلى أن يصبح سياسة شبه معتمدة، وهو أمر يدعو إلى القلق الحقيقي على مستقبل السلام الدولي والاستقرار العالمي، وهنا يظهر التناقض الحقيقي بين فلسفة التيارين حيث يتبنى أحدهما درجة عالية من الانفتاح والتواصل بينما يتبنى الآخر درجة عليا من درجات المواجهة والصدام الذي يصل إلى حد التعميم الأحمق والتصنيف الذي لا يستند إلى خلفية مقبولة إنسانياً وأخلاقياً.

 وإذا كان العالم يعيش في الآونة الحاضرة في عصر العولمة بمنجزاتها في التقريب بين الشعوب ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ومعرفياً، فإن الحديث عن حتمية الصراع بين الحضارات يبدو غير معقول وغير مقبول منطقياً لما ينطوي عليه من المغالطة والتناقض مع ما يحدث وما نشاهده في أرض الواقع، إذ إن العولمة وفقاً لتعريفها تشير إلى عمليات التقارب والاتصال والانفتاح التي اكتسبتها العلاقات الاجتماعية في العالم(2).

التحدي الحضاري:

إن فكرة الصراع الحضاري، أو التحدي الحضاري، أو ما يسمى صراع البقاء للأقوى، أو الصراع الطبقي هي الأساس الذي تقوم عليه الحضارة الغربية، بمذاهبها المتعددة وتطبيقاتها المتنوعة، والصراع يعني ـ فيما يعني ـ محاولة إلغاء الآخر بشتى الأساليب والوسائل، لذلك فإن أي حضارة، أو ثقافة، تفتقد النزوع الإنساني، وتقوم على العرق أو الجنس، أو اللون، أو الطبقة، حضارة تمييز وتعالٍ بطبيعتها العدوانية، الأمر الذي يقودها إلى الاعتقاد بأن البقاء مرهون بإلغاء الآخر، لذلك تصبح الطبيعة العدوانية، من أخص خصائصها، وهي لا تستطيع أن تعيش من دون عدو يضمن تماسكها، واستمرارها، فإن لم يكن لها عدو، فلتصنع عدواً. وفي ضوء ذلك ، يمكن أن نفسِّر دوافع الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، ويمكن أن نفسر في ضوئه أيضاً الحروب الكونية العالمية، التي جاءت من أخطر صور العدوان وأعظمها ضحايا(3).

موقع الحضارة الإسلامية من أطروحة صراع الحضارات:

إن الذي يهم الباحث والمفكر الإسلامي من نظرية الصراع الحضاري كما بلورتها مقولات " صاموئيل هانتنغتون" هو موقع الحضارة الإسلامية ضمن نسيج هذه الأطروحة التي تروم بالأساس تعيين الإسلام كعدواستراتيجي جديد، بل قديم جديد، خصوصا بعد إنهيار المعسكر الشيوعي، لقد وضع " هانتنغتون" نصب عينيه بعض بؤر التوتر والعنف التي تحدث هنا وهناك وفي بعض مناطق العالم الإسلامي المحدودة، وحاكم الحضارة الإسلامية كلها على ضوئها، ناسيا أو متناسيا تنامي الأصولية المسيحية في الدول الغربية نفسها، واليهودية في إسرائيل، والهندوسية في الهند واتساع نشاطها ودورها في التأثير على المشهد السياسي لتلك الدول.

إن ما يجب الحديث عنه فعلا هو موقع كل حضارة من هذه الصراعات، فإذا كانت المواجهات بين المسلمين وأمم أخرى فيجب أن نتساءل من المعتدي ومن الضحية؟ من المدعي ومن المدعى عليه؟ ومن المهاجم ومن المدافع؟ سكت " هانتنغتون" عن كل هذه التساؤلات ولم يعط أجوبة شافية. لا يتعلق الأمر إذا بصراع الحضارات أو صدامها، إنما هو " عدوان على الحضارات .إن الصراع الذي يجري عنه ليس حتما بين حضارة وحضارة.

لقد أعطت مقولة هنتنغتون حول "صدام الحضارات" مفعولها الإيجابي في جميع البلدان الخائفة على ثقافتها وتراثها من التحديات المستقبلية، التي لم تستطع أن تجد لها مشروعاً قابلاً للحياة، رغم مرور أكثر من قرنين من الزمان على بدء التحدي الحضاري(4).

إن مقارنة ما أحدثته مقولة "صدام الحضارات" في العالم الإسلامي من جهة، وفي جنوبي شرقي آسيا من جهة أخرى، تؤكد أن اليابان والصين والكوريتين قد عرفت كيف ترد على الإيديولوجيا بالعلم، أي بالإيغال في عملية التحديث الذاتي وليس بالتغريب، وذلك على قاعدة اللحاق بالغرب أو تجاوزه، وعلى عكس الكلام الأيديولوجي الذي لا تساندوه قوى علمية ذات مصداقية على أرض الواقع، كما هو الحال في كثير من الدول العربية والإسلامية(5).

صراع حضارات أم حوار :

إنه لمن اللامعقول أن ننظر الى صراع الحضارات كعملية منفصلة عن حوار الحضارات، إنهما عمليتان متلازمتان ومتكاملتان، الصراع يليه الحوار، والدعوة الى الحوار سمة من سمات النصف الثاني من القرن العشرين" فعندما ترددت في أرجاء العالم السياسية والفكرية نظرية" هانتنغتون" عن صدام الحضارات، الذي تمت الدعوة اليه بقوة في جميع المحافل والملتقيات وعمل على إنجاحه قصد تجنيب العالم ويلات الصراع وكوارث الصدام الحضاري".

وهكذا فالتاريخ البشري لم يعرف بشكل عام حوارا أو تفاعلا للحضارات إلا وسبقه صدام بين الحضارات، ولكن كيف تقتنع بأن العلاقة بين الحضارات محكومة فقط بالصراع والصدام وليس التفاعل والحوار؟

لقد تم الحوار بين الحضارات دائما وأبدا وعلى مر التاريخ الحضاري للإنسانية، صحيح أنه كانت هناك حالات من التنافس والتفاعل، وهما عمليتان صراعيتان أيضا، ولكن هذا النوع من الصراع كان متجها أصلا نحو البناء الحضاري والاستجابة الواعية لتحديات العصر، عكس أطروحة صدام الحضارات كما صاغها " هنتنغتون " التي تدعو الى إقامة مركزية حضارية نافية للآخر ومتحكمة فيه وفارضة لأنموذجها الوحيد والمتعصب.,

أن المطلوب من مفكرينا تمثل التحديث والعمل على توافر شروطه لأمتنا،ومن هنا أهمية التفريق بين التغريبOccidentalisation والتحديث Moderisation، فالتغريب سيرورة على مستوى الهوية نزعاً وقلعاً واستلاباً، أما التحديث فسيرورة على مستوى التماهي، المشروط والجزئي والتدرجي، والتغريب سلب للهوية وإبدال وإفقار إلى حد الإعدام، والتحديث تطوير للهوية وإغناء وتفتيح للشخصية على تعدد لا متناه من الأبعاد، وبقدر ما أن مكتسبات التحديث قابلة للتمثيل النفسي، فإن التغريب استقلاب ممجوج ومرفوض من قبل الجهاز النفسي، وليس من قبيل المصادفة أن تكون الدلالة الاشتقاقية للكلمة تحمل معنى التغرب عن الذات بالإضافة إلى معنىالتفرنج ومحاكاة الغرب(6).

1-د.جلال أمين: العولمة والدولة، ص 156 أسامة أمين الخولي: العرب والعولمة مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت عام 1998.

2-د.مصطفى الفقي: العولمة أم صراع الحضارات، الأهرام في 23/10/2001

3- انظر مقدمة كتاب: الإسلام وصراع الحضارات، ص32، 33، د. حمد القديدي، كتاب الأمة العدد 44، قطر، العام 1995.

4- د.جفناوي بعلي: الأدب المقارن والتوجه نحو العولمة ـ مجلة الجسرة ـ العدد 5، ص29، 30 ـ قطر ـ العام 2000

5- مسعود ضاهر: صدام الحضارات وارتباك الخائفين، مجلة العربي، العدد 452.

 

6-بيتر غران: رؤية جديدة لمستقبل العرب، ص 661، بحوث مؤتمر مستقبل الثقافة العربية، المجلس الأعلى للثقافة، العام 1997