رمى البطريرك بشارة الراعي أمس بعباءته على كتفيه، اعتمر تاجه الكاردينالي، أمسك صولجانه ومشى مخاطباً جيوشه المتوافدة من مختلف المؤسسات المارونية الخيرية والخاصة وثلة من المرشحين المتفائلين بحظوظهم. قال لهم: «أنتم نواة الرأي العام الثالث وخلاص المسيحيين (…)»... وانطلق يوم الغضب البطريركي!
احتشدت طلعة بكركي أمس بعشرات الحجاج المتوافدين من مختلف المؤسسات المارونية فور إطلاق البطريرك بشارة الراعي صافرة الإنذار الرئاسية قبيل ثلاثة أيام على انتهاء المهلة القانونية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية: أول الواصلين، «المجلس الماروني العام للجمعيات الخيرية»، وهو التسمية الكاملة للمجلس الماروني العام المرتبط مباشرة بالصرح؛ رئيسه الشيخ وديع الخازن. ثاني الواصلين، الرابطة المارونية برئاسة «الأمير النقيب» سمير أبي اللمع، وأهدافها الرئيسية حشد طاقات الموارنة في لبنان والعالم لنشر التراث اللبناني. ثالث الواصلين، المؤسسة المارونية للانتشار المنشأة لتذكير الموارنة بجذورهم وحثهم على الحفاظ على جنسيتهم وقيودهم الأصلية؛ رئيسها الوزير السابق ميشال إده. الخازن وأبي اللمع وإده مرشحون طبيعيون للرئاسة، تماماً كرئيس حزب الكتائب أمين الجميّل، وأتوا اليوم ليكونوا صدى قوياً، لصرخة الراعي الغاضبة. يدخل البطريرك القاعة وسط تصفيق جيشه الماروني الأعزل وصيحات تدعو له بطول العمر.
لا يبتسم الراعي. يسبق غضبه ابتسامته والمصفقين: «إدارة ميشال عون وسمير جعجع للشأن المسيحي إدارة انتحارية شرذمت وقتلت وهجرت مئات ألوف المسيحيين». يتابع بنبرة أعلى: «يريداننا أن ننقرض ولن يتوقفا قبل القضاء على آخر ماروني». الآن، يصرخ: «لا يجوز التفرج على تشتيتهما للمسيحيين ورميهم في أحضان السنّة والشيعة (…) مين بدو يوقف الهجرة، مين بدو يوقف النزيف الاقتصادي، مين بدو يمنع تحويل المسيحيين لأكياس رمل بمتاريس القوى المذهبية والدول الإقليمية؟!». كان لا بدّ لجنوده ملء الصمت المربك واستدراك غضب البطريرك. أمين صندوق المال في مؤسسة الانتشار، شارل الحاج، توجه للراعي قائلاً: «عرّيهم يا سيدنا وخلي اللبنانيين يعرفوا مين عم يعطل النصاب». يتدخل فادي جرجس، عوني في الرابطة المارونية، داعياً الراعي إلى عدم حصر المسؤولية بسياسي دون غيره، فيسانده المحامي وليد خوري مقترحاً دعوة القادة الموارنة إلى اجتماع طارئ. يزايد عليهم زياد الحايك، مدير برامج رجل الأعمال الثري كارلوس سليم، ويشن هجوماً على حزب الله والتيار الوطني الحر «المعطلين للبلد والحياة» و... استثمارات سليم. سريعاً تنصب المؤسسات المارونية الثلاث متاريسها: هذا يدافع عن جعجع، وهذا يدافع عن عون، والبطريرك يتفرّج. إده يهاجم رئيس مجلس النواب: «حاسبوا بري المتعدّي على صلاحيات الموارنة والمستمر في التشريع، رغم أنوفنا والقانون (…) هيا بنا ننظم عصياناً مدنياً ضده». إده يتكلم وميشال متى ورولان غسطين يكرران وراءه وكارلا شهاب تكاد تصرخ «الله... قوات... حكيم وبس». هكذا أرسى جيش البطريرك معادلة أمر واقع مختلفة تماماً عن التي تمناها: يدعوهم لخوض غمار معركته المقبلة ضد الزعيمين المارونيين، فتتحول جَمعته إلى حلقة «توك شو» بين أنصار كل من عون وجعجع. يستدرك الأمر فيسمع الحاضرون رأيه القائل بحق مجلس النواب في التشريع، مستنداً إلى «استشارة قانونية من أهم أستاذ قانون دستوري، إدمون رباط، يؤكد فيها استحالة سلب صلاحيات مجلس النواب». يصمت الجميع ويُكمل الراعي ما أتى بهم لأجله: «لا يمكن الزعماء الموارنة أن يتعايشوا مع بطريرك قوي، يريدون بطريركاً يخضع لهم. ولا يمكن التعويل على النواب المسيحيين لتأمين النصاب، فهؤلاء باتوا دُمى في أيدي رؤساء الكتل... حبذا لو يكونون بجرأة سائق تشرشل الذي قال له يوماً: لن أصوت لك!».
حان الآن وقت الجدّ، يكشف الراعي عن خطاب ينوي إذاعته على الملأ، وهو نتاج عصر فكرَيْ وزير الداخلية زياد بارود والمطران بولس صياح بإشراف الوزير السابق روجيه ديب، صاحب فكرة جمع المؤسسات المارونية الثلاث في الصرح أمس. يبدأ: «(...) أولويتنا المطلقة انتخاب رئيس للجمهورية، وكان من الأجدى للسياسيين إنتاج مواصفات هذا الرئيس في خلال السنوات الست الماضية (…) كان أجدى بالتيار الوطني الحر أن يبدأ تقاربه مع تيار المستقبل باكراً... ظننا أن جعجع أوقف لعبة رمي البحص في الطبخات الوطنية... لا يمكن عون وجعجع المضي قدماً في مخططهما التخريبي (...) لنصنع رأياً عاماً ثالثاً عبركم وعبر حلقاتكم المارونية والشعبية (…) هيا بنا ننقذ البلد سوياً». لا يكاد ينهي خطابه حتى يخرج تاركاً جنوده تائهين في كيفية تفسير ما سبق. اعتذر عن عدم متابعة اللقاء لأن «جدول أعماله مكتظ». وما إن يغلق الباب حتى تشتعل الحرب مجدداً في ما بينهم، فتفرط الجلسة ولا تجد غير مسؤول الإعلام والبروتوكول في بكركي وليد غياض لإذاعة البيان.
في القاعة الثانية، يجلس الراعي مستجمعاً أنفاسه إلى حين دخول ضيفه الأول، الوزير السابق عبد الله فرحات. يحاول فرحات أداء دور الإطفائي المبرّد لأعصاب البطريرك عبر دعوته إلى تهدئة النفوس والتخلي عن الخطاب التصعيدي الذي «يشتت المسيحيين أكثر فأكثر». يدخل الإطفائي الثاني، رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي لإخماد انتفاضة بكركي. يخرج فرحات والفرزلي، ويحضر رئيس المجلس الماروني وديع الخازن على طاولة غداء الكاردينال، داعماً نظرية التهدئة هو الآخر. سريعاً تتسرب الأخبار الكسروانية إلى معراب حرفياً، فيتسلل جعجع بعد ظهر أمس إلى الصرح متباكياً على نصاب لن يؤمنه «عون الأناني».
طوى البطريرك يوم غضبه الاستثنائي بوجه لا يقلّ تجهماً عن ذلك الذي قابل به ضيوفه صباحاً. لم تنفع مراوح المطران سمير مظلوم، عقل بكركي وميزانها وفق زوار الصرح، في تبريد النار. لا يتعب الراعي من تكرار مغامراته مع الزعامات المارونية، بدءاً بسعيه إلى تشكيل قيادة رباعية تحكم من بكركي، مروراً بطرحه تسوية ثنائية على عون وجعجع تقضي بترشيح أحدهما للآخر أو الاتفاق على مرشح ثالث؛ وصولاً إلى تمردهما عليه وتجاهلهما له ومحاولتهما تجنيده كل إلى جانبه.
يضرب الراعي بيده على طاولته، لن يقف على الحياد بعد اليوم مراقباً موقعه يتآكل شيئاً فشيئاً، تقول مصادره. وهو إن لم يحسن تسويق مبادرته للتمديد لرئيس الجمهورية ميشال سليمان، بتعديل دستوري أو بفتوى، يتقن أصول تسويق معركته الخاصة. بالأمس، كان هناك متراسان رئاسيان: جعجع و14 آذار من جهة وعون و8 آذار من جهة أخرى. المتاريس باتت ثلاثة: عون وجعجع والراعي... وكرسي الرئاسة بينهم.