يستعر لهيب الازمة الاوكرانية الكبيرة بين روسيا والغرب حيث بدأت نارها تتخطى دائرة الصراع الكلامي والخطاب السياسي والدبلوماسي والإعلامي المتشنج بين الطرفين، وقد تصل الى حد المواجهات العسكرية بين الاوكران والروس في مناطق اوكرانيا الشرقية ذات الترابط الوثيق مع روسيا، حيث تشعر روسيا أنها معنية بالدفاع عن سكان هذه المنطقة حتى لو كان ذلك من خلال القوة العسكرية كون مصالحها وجاليتها تطالب بهذه الحماية، وما حصل في الايام الاخيرة خير دليل على ذلك. ولا بد من الاشارة الى ان الازمة الحالية بين الجارين التاريخيين لم يعرف لها مثيل منذ عقود طويلة حيث ان الترابط العرقي والقومي كبير (الدم السلافي) لدرجة لا يمكن التلاعب على هذه العصبية.

المواجهات اليومية الميدانية بين سكان هذه المناطق والسلطة الاوكرانية الهزيلة التي تحاول بدورها ان تستعيد ما فقدته من هيبة تعتبر انها فقدتها في المناطق الشرقية والتي تتهم سكانها بالانفصاليين والإرهابيين، بينما روسيا تهدد وتتوعد بأن اي عمل عدواني من قبل الاخيرة سوف يكلف حكومة كييف غاليا.

وردا على هذه اللهجة تحاول الدول الغربية وأميركا رفع معنويات السلطات في كييف بسبب تخوفها من اي عملية عسكرية كبيرة قد تشنها موسكو وتسيطر من خلالها على المناطق الشرقية التي تنادي بالتدخل الروسي للحماية عبر التلويح بمزيد من العقوبات الاقتصادية الموحدة ضد موسكو والتي بدأت تشمل العديد من الشخصيات والكيانات الاقتصادية القريبة من سلطة الكرملن، حيث ردت موسكو بالمثل، مما دفع رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف الاسبوع الماضي للقول في جلسة امام البرلمان بان روسيا تستعد لمواجهة هذه العقوبات وتحضر نفسها للأقصى منها.

لكن المراقبين الذين يحاولون معرفة مقدرة روسيا على الرد، يرون بان الروس سوف ينفذون عملية عسكرية كبرى على اوكرانيا، ولكن موسكو لا تزال تفكر بنوع السيناريو الذي قد تستخدمه في ذلك، وبات من المرجح ان موسكو سوف تستخدم سيناريو جديداً يجمع ما بين عملية القرم السرية الهادئة التي تمكنت موسكو من فرض سيطرتها على الجزيرة سريعا وما بين سيناريو جورجيا 2008 الصاخبة الذي فاجأت الغرب بقوة النيران وبنوعية العملية والسرعة في الرد، لذلك تقوم روسيا بالجمع بين هذه الافكار مما يربك الغرب، في كيفية الرد على موسكو.

لكن السؤال الذي يطرح على عقول الجميع ما مدى تأثير العقوبات الغربية على روسيا وقدراتها العسكرية في العملية القادمة.

بالطبع حاليا لن يكون للعقوبات اي تأتير مباشر، ولكن لاحقا سوف تنعكس هذه العقوبات على الاقتصاد الروسي وستترك اثارها السلبية على الشعب الذي ايد خطوات الرئيس بضم القرم ولكنه لن يؤيده بتحمل هذه العقوبات.

فالاقتصاد الروسي يعيش على انتاج وبيع الغاز والنفط وبيع السلاح، وبالتالي روسيا وشعبها هما من المستهلكين وليس من المنتجين، وهذا ما قد يسبب ازمة كبيرة في عملية استيراد كل القطع الغربية التي ستفرض عليها عقوبات اضافة لعملية التحويلات.

تعاني روسيا من حالة نقص كبير من الناحية الديموغرافية، حيث يتناقص عدد سكان روسيا سنويا سبعة ملايين نسمة، وهذا يعكس نفسه على تعداد القوات العسكرية التي كانت روسيا تملكها سابقا والتي تعتمد حاليا على القوات الخاصة في حربها.

وتعاني روسيا حاليا من هروب رؤوس الأموال منذ اليوم الاول لضم القرم والتي بلغت60 مليار دولار في الاشهر الثلاثة الاخيرة، بيمنا سجل في العام 2013 خروج 60 مليار دولار، وسجل النمو الاقتصادي 0,8 في العام الماضي بينما العام الحالي 0,3.

كما يسجل هبوط في قيمة الروبل الروسي مع بداية الازمة الاوكرانية لم يحصل له مثيل منذ العام 1998 عندما وقع الانهيار الاقتصادي الكبير.

فالمصرف المركزي الروسي لايزال يضخ اموالاً في الاسواق من اجل تعويم الروبل في ظل حركة الشراء الكبيرة للعملة الاجنبية وسحبها من البنوك الروسية تحسبا لتطور الاوضاع. والجدير بالذكر اان الاحتياط الروسي يبلغ 300 مليار دولار.

يقدر عدد «الكادر» الروسي الذي يذهب سنويا للخارج لرفع الكفاءات العلمية في المعاهد الاوروبية والأميركية بنحو 700 الف الى مليون شخص، ولكن نصفهم على الاقل يبقى في تلك البلدان على اساس طلب الهجرة، مع العلم ان روسيا تعتبر الدولة الثانية في العالم في نسبة عدد اللاجئين. فاذا حاولنا مقاربة اعداد المهندسين بين روسيا والولايات المتحدة الاميركية فان مهندسي روسيا يشكلون 20 بالمئة من نسبة المهندسين الاميركان.

وتشير الاحصاءات الحالية المالية ان روسيا دفعت ملياري دولار في القرم لعدد السكان البالغ مليوني نسمة في عملية تبديل العملة ودفع الرواتب فقط. فكيف يمكن لروسيا تحمل اعباء سكان المناطق الشرقية ذات الامتداد الجغرافي الكبير والبالغ عددهم اكثر من 10 ملايين نسمة على كاهل اقتصادها الذي يعتبر اقتصاداً مستهلكاً وليس منتجاً؟

مما لا شك فيه ان اوكرانيا منطقة استنزاف اقتصادي كبير لروسيا من خلال تغطية حاجات ومطالب الشعب الاوكراني الذي يرزح تحت حافة الفقر والطامع بالتوجه نحو الغرب او نحو روسيا من اجل تحسين ظروف معيشته وتغيير حالته المالية والاجتماعية.

لكن السؤال الذي لم يلق حتى الآن جواباً: لماذا ذهب الجميع الى اتفاق جنيف لحل الازمة الاوكرانية طالما لم يلتزم به احد؟

المؤكد ان الجميع ذهب ليس من اجل الحل، بل من اجل ضبط الصراع وعدم تفجيره، لان الجميع في مأزق، بالرغم من كونهم يعتبرون ان الكل حصل من اوكرانيا على ما يريد، روسيا شبه جزيرة القرم، وأوروبا اوكرانيا، وأميركا اعادة تموضعها في اوروبا، وفرض نفسها مجددا على الامن الاوروبي.

فالمعركة اذاً هي صراع على الارض والسيطرة عليها، لذلك لغة الحرب بدأت تعلو من جديد خصوصا ان روسيا ترى فرصتها الحالية بالسيطرة على شرق اوكرانيا، ومن ثم التفاوض على اوكرانيا الغربية في ادارة المصالح مع الغرب، بينما سلطة كييف تحاول الهجوم من اجل الدفاع لتوريط الغرب في عملية الدفاع عنها.

() كاتب وباحث في الشؤون الروسية ودول اوروبا الشرقية