نجاة عبد الصمد

 

تمضغ لفظ "النزوح"، ورجع صداه، وحدكَ، وبينك وبين عيالك، وأشباهكم في شتات الأرض، وتعلم أنّ النزوح ليس واحداً، بل درجات ومنازل!

قد تفرّ من بيتك حين يبدأ القصف، وتحتمي في ملجأ آمنٍ في البناء، أو في حيٍّ قريب. لديك في الملجأ طعام وشراب وتسلية وراديو يأتيك بالأخبار، وأطفالك حولك وكلكم بخير. لن تقيم هناك طويلاً. فحين تنتهي الغارة تعود وتتفقد بيتك وتصلح ما انعطب، وتتولى حكومتك تعويض خسائرك الصغيرة أو الكبيرة. هذا إذا كانت الغارة عدوّةً...
لكن للغارات الصديقة حسابات مختلفة. ينشب في رأسك سؤالٌ لا يقلّ بطشاً عن قذيفة: لماذا يقصفونني وأنا ابن هذه الأرض؟! لماذا يقصفني أبناء وطني الذين من بينهم ابني وابن جارنا وابن المدينة الأخت والجارة؟! تذهلك جحيم النار قبل أن يكتمل السؤال. تلمّ أطفالك وتركض إلى أي اتجاهٍ لا حريق فيه. تظلّ تركض كأبطال الماراثون إلى أن تخور قواك الطبيعية والاحتياطية، وتذوي كعودٍ مسلوق ببخار الخوف. حين يبطئ لهاثك قليلاً، يتاح لك استيعاب كم أنت سعيدٌ لأنك لا تزال تتنفس، ولا دم يسيل من ثقبٍ مستحدثٍ على جسدك! حينذاك أيضاً؛ تأسى كثيراً على من قضى من أحبائك في البيت أو على الطريق. تأسى أكثر لأنك في لحظة خروجك من جحيم النار، ذهلتَ عن كل ما كنت خطّطتَ له، وما كنت قرّرتَه، وما كنتَ جمعتَه في صرر صغيرة يمكن دسُّها في الجيوب وتحت الحزام، وكل ما كنتَ حفّزتَ ذاكرتك مراراً ألا تنسى. تكتشف ما أحلى العيش، وما أمرّ خسران أحبةٍ كانوا منذ ساعاتٍ على قيده!
إنما: أنت المحظوظ بالحياة لا تعرف إلى أين تمضي الآن! لأنّ مكبّرات الصوت التي أنذرتك بإخلاء بيتك بداعي المحافظة على سلامتك من الأذى، لم توجّهك إلى حيث عليك أن تمضي، ولم تجد من مسؤولي بلدك أحداً يغيثك أو يتولّى مصيرك أو حتى يطمئنك أو يؤمّن لك إقامةً موقتةً أو دائمةً في مكانٍ ما في بلدك.
قد تتابع نزوحك إلى مدينة "آمنة" في دولتك. لك فيها بعض أقارب أو أصدقاء. هناك تشكر ربّك لأنك حتى الآن لا تزال في بلدك، وأنك تتعامل بالعملة نفسها؛ هذا إن وُجدَتْ. تقضي أشغالك ومعاملاتك في المؤسسات نفسها، ويتابع أولادك تعلّمهم في مدارسهم الجديدة ذات المنهاج المدرسي الذي كانوا بدأوه. وقد تجد بيتا مقبولا تستأجره، وعملا قد لا يرضيك، لكنك تقبل به لأنه مبارَكٌ أكثر من سلال الإعاشة.
قد يأخذك النزوح الجماعيّ إلى دولة عربية شقيقة: إلى لبنان أو مصر أو الأردن أو العراق. بالطبع لن تصل إليها في بولمان مكيّف، ولن تختم وثائقك (المفقودة أصلاً في حريق البيت أو في سهو الذاكرة) على المعبر الحدوديّ النظاميّ. هنا تتعرّف إلى فنون تهريب الآدميين: قد تمشي حتى تنهرس قدماك وتصيرا وكرين للألم، وقد تنقلكَ دابّةٌ كسولة هرمة يضعونك على ظهرها إشفاقاً على عجزك أو مرضك أو شيخوختك، وقد تحملك "سوزوكي" مثقلة بأعطالها وحمولتها، وقد تتخفّى في السهوب الكثيفة في الأراضي الحدودية مرعوباً من سبطانات البنادق المشرعة نحوك ريثما يأتي الليل وتنستر في عتمته وتكمل طريقك.
لعلملكَ، حدث أن مات ستة أشخاصٍ من أهل درعا بلدغات الأفاعي قبل أن يطلع عليهم صباح الفرج على الحدود السورية - الأردنية، ولم يبلّغ عن موتهم أحد.
منذ أن انغلقت حدود مصر، صرتَ عرضةً للغرق في عبّارةٍ لتهريب كل الحمولات البشرية التي لم يعد لديها ما تخاف على خسرانه؛ بما في ذلك حياتها العاثرة. ولو وصلت بسلام، تفرح من جديد لأنك تجد من يخاطبك بلغتك العربية ـ لغتكم الواحدة، التي غالباً لا تعرف غيرها.
شمالاً يكون طريق نزوحك الأسلم إلى تركيا. تصدمك مجاهل الطريق، فيلاقيك سمسارٌ يخاف على حياتك الثمينة بقدر ما ستعطيه من مال. تتدبّر أمرك وتنقده الأرقام الصاروخية التي يطلبها منك، وتسير خلفه ممتنّاً لأنه الوحيد الذي يعرف كيف يجنّبك أهوال الألغام الأرضيّة على الحدود، ويأخذ بيدك وأنت تقطع نهراً عميق المجرى، أو شديد الانحدار، خطيره. قد تصل أخيراً (بخير)، فتصدمك اللغة التركية الأعجمية. ستعرف أنّ مواطنيها لا يتكلمون، ولا يرضون أن يكلّموك بغير التركية، ولو خاطبتهم بالعربية أو بغيرها أجابوك: "نو انكلش".
في أمانك النسبيّ الجديد يبتسم لكَ الحظ إن تلقّتكَ منظمة دولية أو متطوعون طيبون من أبناء بلدك الذين سبقوك إلى ممالك النزوح. تنتظر سلال الإعاشة. قد تستنتج أنهم يسترزقون باسمك ويجمعون ثرواتٍ صغيرة أو كبيرة حين تصلك السلة ناقصةً أو لا تصلك قطّ. لكنك لن تُسائل أحداً. قد تصير بطلاً لخبرٍ استثنائيّ أو نجم لقطة استثنائية من عدسة كاميرا تنتهك ملامحك الطعينة وأنت تجلس منتظراً من يطعمك. قد يسخرون منك لو طلبت حلاوة مثلا لتغسل بها طعم الأرز المسلوق من فمك، أو لو بعت كيلو الأرز لتشتري لأولادك هريسة أو قطع شوكولا رخيصة.
تكتشف أن كثيراً من أصحاب الأراضي التي أقيمت عليها المخيمات، يطلبون ثمن استئجارك لهذه الأرض. في إحدى الدول: أرخص مكانٍ للخيمة الواحدة يساوي 70 دولاراً في الشهر، و700 دولار في السنة (سعر الجملة)، وأنت المسؤول عن تأمين هذه الدولارات إن لم تشفق عليك من جديد إحدى هذه المنظمات المولودة من أجل حقوق الإنسان. ولن تحصل بسهولة على أرضٍ قريبة من مدرسة ترسل أبناءك إليها، وكلما اقتربت الأرض من المدارس صار أجر الخيمة فوقها أغلى.
حين يأتي الشتاء ترفع يديك إلى إلهك في سمائه، ترجوه: يا الله، لا ترسل مطراً إلى هنا، ولا برداً. لن أحتمل أن تتبلل كرتونتي الوحيدة في خيمتي، ففيها كل ما بقي لي. ولا أطيق أن يتسلل الماء إلى مخدتي الوحيدة، فعنقي يابسة قبل سقوط هذا المطر.
لا أكثر من الوقت في ليالي النزوح. تنتظر أن يرد خبرٌ عنك أو عن ملايين إخوة لك ذاقوا مصيرك: أن ترد أخبارٌ عن النازحين في الإعلام السوريّ الرسمي، في نشراته الإخبارية الرئيسية؟ ستحضن يدُك خدَّك وأنت تتمتم: من قد يهتمّ لحالي؟ ما هي جريمتي لتقذفني يدٌ إلى يدٍ، ووعودٌ إلى وعودٍ، وأممٌ متحدةٌ إلى "حقوق الأنسان"، وترفضني حكومتي أو حكومة البلد "المضيف" كأني عارٌ أو شتيمة؟
حين تؤوب إلى رشدك؛ تتساءل: لماذا لم تصدّنا أيّ جهة حكومية عن النزوح خارج البلاد؟ بينما على الضفة الأخرى للحدود كانت غالباً في استقبالنا منظمات أو جمعيات خيرية وإنسانية؟
تبدأ تسأل نفسكَ: متى أعود؟ سؤالٌ يراودكَ في يوم الشتات الأول، ثم في اسبوعه الأول، ثم في شهره الأول، وسنته الأولى. بعدها يضمحلّ السؤال وينزوي إلا في ساعات الحسرة والحنين؛ فأنتَ مشغولٌ الآن عنه ببناء ما يتاح لكَ في عالمكَ الجديد. ترى نفسكَ تحوّل الخيمة إلى صفوف بلوك ثم تلقح عليها سقف توتياء، ثم أعمدة خشبية ثم سقف باطون ثم طبقة ثانية.
وقد تتساءل: لماذا يسمّونكم في الداخل السوريّ بـ"الوافدين"؟
في القاموس: الوفد: هم "الركبان المكرّمون". وهم "القوم يجتمعون فيرِدون البلاد، أو يقصدون الأمراء لزيارةٍ واسترفادٍ وانتجاع وغير ذلك". أحدهم: "وافد". الوافد على الأمير: "هو الرسول إليه". والوافد: هو "القادم". القادم وحسب! ستسأل نفسك: مَن أنا من بين هؤلاء؟!
حتى في معنى النزوح، يغمغم القاموس ولا يفصح. النزوح هو: "الغياب عن الديار غيبةً بعيدة". والنازح: هو "البعيد".
هو "البعيد..."، وحسب! فصمتٌ عن كلّ شرحٍ أو تفسير. أما اللجوء، فتعريفه يُنبئ عن هوْله: هو "الفرار خارج البلاد لأسبابٍ سياسية وغيرها". ولهذا مقامٌ آخر...