يتحدث العلامة السيد هاني فحص في هذه الحلقة عن الاعتدال لدى كبار علماء الشيعة، خصوصاً في النجف، حيث عبّر مراجعها الكبار عن الاعتدال مبكراً في الشأنين العراقي والإقليمي، كما بقيت النجف على اعتدالها وعلّمت علماءها بالقول والفعل الانحياز الى الحرية والعدالة. ويتوقف عند تجربة كبار علماء الشيعة في لبنان الذين "كانوا منحازين الى الاعتدال والوحدة وتحمّلوا الكثير بسبب اعتدالهم".
ويركّز فحص على تجربة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر الذي "صبر على اعتداله ولم يبخل بدفع الأثمان حتى كان هو الثمن الأخير". ويشير الى محطات من علاقات الصدر بالزعماء والقادة العرب حيث اندهش الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عند لقائه به "وأفضّ له بما كان قد كوّنه عنه من صورة مشوّهة"، مشيراً الى شجاعة الصدر الذي "تواصل مع الملك حسين في وقت كانت حركة التحرر العربي تنعته بشتّى النعوت القاسية".
ويعود في شريط الأحداث الى العلاقة الودية التي أقامها الإمام بعد أحداث أيلول مع ياسر عرفات والتي وصلت الى حد "متابعته لوضعه الصحي بالتفصيل بعد حادث الطائرة".
ويرى فحص أن من مآثر الصدر "انفتاحه المبكر على الكويت والإمارات والبحرين فضلاً عن المغرب والجزائر". ويؤكد أن علاقة الإمام بليبيا "كانت من أجل لبنان لا من أجل أي شيء آخر.. وأن علاقته بسوريا كانت من أجل لبنان وفلسطين وسوريا ولهذا السبب شعر بأن المطلوب تهميشه.. وهو ذهب الى دمشق بطلب من عرفات وخليل الوزير لتجنّب انفجار صراع بين سوريا والمقاومة، لكنهم دهموا منزله لأنهم لا يريدون نجاح مهمته الاعتدالية".
ويشدد فحص على أهمية مواقف الصدر "الاعتدالية والوسطية والتسووية"، وعلى عدائه للحروب والعنف، مذكراً بدافعه القوي عن الجيش بوصفه رافعة الدولة والوطن والسيادة، ومؤكداً ضرورة أن تكون علاقة المقاومة بالدولة والجيش علاقة تكاملية.
ويختم فحص أنه لا يمكن للعالِم الحقيقي "أن يبرر الإرهاب الرسمي أو الحزبي أو الفردي، ولا جور أي نظام ولو كان شيعياً".

هاني فحص

اقل القليل من العقل أو العلم أو الدين أو الضمير يكفيك لأن تكون متطرفاً، وأن تنتقل من تطرّف الى تطرّف مضاد.. أما أن تكون معتدلاً فهذا أمر ليس سهلاً، ويحتاج الى مزيد من العقل والدين والعلم والضمير وتترتب عليه متاعب ومضايقات، ويحتاج الى صبر وأعصاب قوية وحسابات دقيقة، خصوصاً وإن إغراءات التطرّف قوية، فهو قد يكون مجلبة للمال والجاه والسلطان الحرام وإن كان جهنم الدنيا والآخرة في انتظاره بعدما يبلغ النهاية في ارتكاباته.
أما الاعتدال، فهو في المعتاد مجلبة للفقر والتواضع وإن كانت العزة نهايته، فهي لا تتأتى إلا بالمزيد من التضحيات، ولولا أن أهل الاعتدال، خصوصاً الذين جرّبوا جرعة أو فترة من التطرّف، لم تكن كافية لأن تجتث عقلهم وضميرهم، لولا أن هؤلاء يؤمنون بأن الاعتدال هو فضاء الحق والحقيقة، لما صبروا ولوقعوا في إغراء التطرّف الذي يشبه إغراء الرذائل المعروفة والذي يعالجه الأتقياء بالعفّة.
وفي ما يعود الى الاعتدال في السلوك التاريخي لعلماء الشيعة الكبار، والالتزام الغالب لمريديهم والعاملين بفتواهم من الجمهور الشيعي الإمامي الإثنا عشري (الجعفري).. وفي ما يعود خصوصاً الى الاعتدال، في سلوك كبار علماء الشيعة المعاصرين، والمراجع منهم خصوصاً، يحسن الباحث أو الكاتب أو المتابع أو المتحدث، المعني بتظهير الحقيقة والحفاظ عليها حتى تكون حجة على أهل الفتنة لا لهم، يحسن أن ندقق في أي كلام نسمعه أو نقرأه أو نكتبه، حتى لا يكون المحسن والمسيء بمنزلة سواء. كما يحسن أن نلاحظ أن الظروف الصعبة تفرض على المرجع المسؤول أن يحتاط في كلامه، في بعض الأحيان يكون الاحتياط في الصمت، لأن حالات الهياج الحزبي والشعبوي، تشكّل خطراً على المرجع وعلى مرجعيته، إذا لم يتوخّ الدقة، والحرص على عدم المواجهة المباشرة مع الغوغائية.. من هنا تأتي قلة ما نسمع عن الآراء الفقهية لكبار المراجع في قم، وأعني المستقلين منهم، وهم الأكثرية الساحقة، في صدد المشهد اللبناني والسوري والإقليمي الراهن، أما مراجع النجف الكبار، فأكثرهم، والفاعلون منهم خصوصاً، قد عبروا مبكراً عن اعتدالهم في الشأن العراقي والشأن الإقليمي، ولعلها قلة ضئيلة من متعصبي السنّة، لم تقرأ بدقة إصرار السيد علي السيستاني والسيد محمد سعيد الحكيم والشيخ إسحاق الفياض، ومعهم كبار أساتذة الحوزة، على رفض الفتنة والتجزئة بين السنّة والشيعة في العراق، ومثلهم قلّة من الشيعة، كانت وما تزال تريد غطاء لعصبيّتها وتطرّفها، ولا تجده في كلام المراجع، فتتعامل معه سلبياً.. في حين أن علماء السنّة وجمهورهم الأكبر، وعلماء الشيعة وجمهورهم الأوسع، يعترفون لمراجع النجف بإصرارهم وصمودهم على الاعتدال ورفض الفتنة في الظروف الراهنة... ومن خلال التجربة، يقوم الأكثر وعياً بتفسير صمت المراجع أحياناً، بما يتطابق مع المعلوم منهم يقيناً من اختيار نهائي، عقلي وعلمي وروحي للاعتدال وأهل العلم والخبرة، يعبّرون عن قناعتهم بأن مقام المرجعية مقام رفيع، لا يتمتع به، أو لا يتمكن منه، بتسديد ولطف من الله تعالى بعباده، من لا يكون حريصاً على الوحدة وعلى الدماء والأعراض والعدالة والاستقامة وأحوال الناس وأرواحهم ولا يمكن للعالم الحقيقي أن يبرر الإرهاب الرسمي أو الحزبي أو الفردي، ولا جور أي نظام، حتى لو كان شيعياً أو مدعياً للتشيّع، وقد كان نظام شاه إيران يدّعي حمايته للشيعة ويظلم الشيعة باسم الشيعة، وكان هناك إجماع لدى علماء الشيعة على معارضته وإدانته، بصرف النظر عن الدعوة الى إسقاطه واستبداله بنظام إسلامي أو غير إسلامي.
الاعتدال الشيعي لم يكن نظرياً
من هنا يبدأ فهم الاعتدال الشيعي، الذي لم يكن نظرياً ولا مرة.. وليس صدفة، أن يكون كبار علماء الشيعة في لبنان منحازين الى الاعتدال والوحدة، وإن دفعوا أثماناً باهظة، جراء اصطدامهم بالسياسات الطائفية التي تستقطب ذوي البضاعة العلمية المتواضعة... والسيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، أمثلة معروفة ومعروفة أيضاً الضرائب التي تحملوها بسبب اعتدالهم ومن القماشة نفسها تأتي مواقف المميزين من علماء الشيعة في لبنان، الذين يصرون أنهم يمثلون الثابت والعميق، في تاريخ الشيعة ومنظومتهم العقدية والفقهية والقيمية، المتجسدة في تاريخ العرب والمسلمين، إيثاراً مؤصلاً للسلام على الحقوق الطائفية المحقة وغيرها.
ومن معتدلينا في لبنان الإمام السيد موسى الصدر الذي صبر على اعتداله ولم يبخل بدفع الأثمان حتى كان هو الثمن الأخير، ولطالما انتُهك الرجل واتُهم من هنا وهناك وهنالك، ومن الأقربين والأبعدين، ولكنه ظل شجاعاً الى آخر لحظة وأجبر أهل الضمير ممن لم يقصّروا في نقده أو شجبه أو إدانته، أجبرهم على إعادة قراءته وإنصافه إنصافاً لأنفسهم وذممهم ووطنهم وأهلهم.
والمفارقة الهائلة أن كثيراً ممن تربّوا تحت عباءته وحملوا رايته واجتمعوا في مكان سياسي أو آخر، أو أكثرهم، لم يستحضروا منه بعد تغييبه إلا الثانوي من فكره ومسلكه، بل ربما نسبوا إليه أفكاراً وأهدافاً وشعارات وسلوكيات كان يعافها وينفر منها.. فلم يُعرف عنه أنه شتم العرب، حتى الذين صنّفوه عميلاً بسبب معلومات عملائهم الغشاشين، ومعروف أن جمال عبدالناصر قد اندهش عندما التقاه في القاهرة وأفضى له بما كان قد كوّنه عنه من صورة مشوّهة.
ويذكر رفيقه في رحلته، زهير عسيران، أن محمد حسنين هيكل التقى الإمام في مبنى "الأهرام" واستعرض معه تجهيزاتها ومنها صندوق كبير (كومبيوتر) أواخر ستينات القرن المنصرم وسأله الإمام عن وظيفته فأجرى له تجربة أمامه: كتب اسم موسى الصدر، فخرجت المعلومة تقول: عميل أميركي!!!
وتجربته المبكرة مع المملكة العربية السعودية التي لم تكن في القرن الماضي أكثر انفتاحاً على الشيعة من الآن، كانت سابقة شجاعة واكتشافاً لموقع المملكة العميق في حياة العرب والمسلمين، بعيداً عن الأفكار السلبية المتداولة وبعيداً عن الصورة النمطية المبالغ فيها عن الشيعة اللبنانيين لدى المملكة، وعن المملكة لدى شيعة لبنان.
السيد موسى الصدر تربّى في كنف مرجعين في الاعتدال المسلكي والعلم الإسلامي والفقه خصوصاً، هما والده السيد صدرالدين وعمه السيد حسن الشهير جداً وكان المرجع الأعلى في قمّ حتى أربعينات القرن الماضي، حيث تكرّست مرجعية السيد حسين البروجردي، الذي قاد حركة الاعتراض ضد النظام، وانقطع أربع سنوات في أصفهان لدراسة فقه المذاهب الأربعة، وظهر في دروسه قدر كبير من احترام هذا الفقه، انعكس على فقه تلاميذه الكبار احتراماً للاختلاف وسعياً الى تحرير المشتركات (الشيخ حسين علي منتظري مثالاً) وتحت ظل هذا المرجع (البروجردي) نشطت مجموعة مميزة، ثورية ضد النظام، ومعتدلة مع الشركاء وإن اختلفوا، منها الشيخ مرتضى مطهري والسيد محمد حسين بهشتي، والسيد موسى الصدر، الذي قال عنه بهشتي: كان أذكانا، حيث عملت هذه المجموعة على ربط الحوزة بالجامعة، وربط العلوم الحوزوية بالحقول المعرفية المختلفة، وبالمطالب الاجتماعية الملحة (الحرية والعدالة).. ولم يأت السيد الصدر الى لبنان ليخلف إمام الاعتدال السيد عبدالحسين شرف الدين في صور، مباشرة، بل مر بالنجف التي كان اي عالم ايراني يشعر بالحاجة الى المكوث في فضائها العلمي مدة، ليكتسب توقيعها على علمه واجتهاده.. واختار السيد الصدر ان يقضي اربع سنوات في اطار جمعية منتدى النشر، قريبا من مؤسسها الشيخ محمد رضا المظفر، لتتحول على مدى عقود الى مؤسسة رائدة في نشر العلم والمعرفة والفقه المقارن بما يلزم ذلك من انفتاح على فقه المذاهب الاخرى وتبادل المعرفة والاحترام معها. وكانت كلية الفقه أحد أهم منجزات هذه الجمعية، حيث تلقينا دروسنا في العلوم الدينية والفلسفة والعلوم الانسانية والآداب، على يد فريق واسع من الاساتذة من بغداد والقاهرة، ومن كل الأديان والمذاهب والحساسيات الفكرية (حتى الشيوعية والوجودية) وبانسجام تام.. ومن خلال الكلية تابع الشيخ المظفر وخليفته عليها السيد محمد تقي الحكيم خط التواصل الذي رسخه المرجع الشيعي محمد حسين كاشف الغطاء في مؤتمر القدس (1936) حيث كان امامه منسجما مع تأسيس الشيخ محمد تقي القمي لدار التقريب في القاهرة.. وعملت منتدى النشر برعاية المرجعين الاعتداليين الكبيرين السيد محسن الحكيم والسيد ابو القاسم الخوني وما زلنا حتى الان نجهل مذاهب ثلث اساتذتنا في كلية الفقه.
ولكن تعرض الامام الصدر للتجريح على هذا التواصل ومن كل الأصناف والطوائف، وقد كان بين من جرحوه وادانوه مجموعة من الطامعين، وآخرون عادوا ليسلكوا مسلكه نفسه بقليل من العزة والوقار.. ولا ننسى انه كان شجاعاً عندما تواصل مع المرحوم الملك الأردني الحسين بن طلال في وقت كانت فيه حركة التحرر العربي تنعت الملك بشتى النعوت القاسية، وهو الذي تجاوز كل شيء ونسي كل الاساءات وشارك في حرب عام 1967 باندفاع وصدق وبالتناغم مع المرحوم جمال عبد الناصر متناسيا ما نزل به من ظلم فادح ليثبت اصالته وعروبته العميقة.
وعاد بعد سنوات من احداث ايلول الى بناء علاقة ودية عميقة بالمرحوم الرئيس الشهيد ياسر عرفات، وصلت الى حد متابعته التفصيلية لوضعه الصحي الدقيق بعد حادث الطائرة المعروف، حيث كان في شبه اقامة الى جانبه في المستشفى في عمان، بعد اجراء عملية في رأسه، كان للملك حينها دور اساسي في اقناعه باجرائها طلبا للطمأنينة والوقاية.. وبذلك اثبت الملك حسين انه خصم شريف، يسامح بعد ان يصارح، الى هاشميته التي هي تكليف اضافة الى تشريفها، وهذا ما اخذه السيد الصدر في الاعتبار.. ونحن نقدم هذا الشاهد توكيداً لتوازن الامام الصدر من بداية حياته، وقد مكّنه ذلك من الجمع بين صداقة الملك وصداقة أبي عمار.
ومن مآثر الامام الصدر انفتاحه المبكر على دولة الكويت والامارات العربية المتحدة والبحرين فضلا عن المغرب والجزائر التي ظل لفترة طويلة نجم مؤتمراتها الفكرية الاسلامية.
وأفضى به اسلامه وايمانه وهاشميته وعروبته ووطنيته اللبنانية الى الغاء كل الحساسيات والارتفاع فوقها، ومن هنا كانت علاقته بليبيا من اجل لبنان لا من اجل شيء آخر ولا على حساب طرف آخر وإنما هو الاعتدال الذي يجعل صاحبه صادقا في علاقته بالأطراف المختلفة او المتعارضة.
ومن هنا بالذات كانت علاقته بسوريا من اجل لبنان وفلسطين وسوريا.. ولهذا السبب شعر بأن المطلوب تهميشه.
أشرف المواقف وأشجعها
كان همه ان لا تصل العلاقة بين سوريا والمقاومة الفلسطينية الى الصراع، والقتال لأن ذلك ضد مصلحة الجميع.. ويذكر المتابعون انه ذهب عام 1976 وفي اللحظة الأخيرة الى دمشق بناء على طلب من المرحومين ياسر عرفات وخليل الوزير لعلهم يتجنبون انفجار الصراع بين دمشق والمقاومة، وكانت فرصة للمغامرين المرضى بالتطرف فداهموا منزله لأنهم لا يريدون نجاح مهمته الاعتدالية.. وانفجر الصراع، وإذ بهؤلاء بعد فترة ينتقلون الى دمشق.
ان اشرف وأشجع وأهم موقف واشده ثباتاً واتزاناً وتوازناً وشفافية في الحرب اللبنانية القديمة والمتجددة باشكال مختلفة، والتي لم يدخر الامام الصدر وسعاً من أجل منعها أو ايقافها مرة بعد مرة، وبالتعاون مع أهل الاعتدال (البطاركة صفير وخريش وهزيم والشيخ محمد ابو شقرا والمفتي الشهيد الشيخ حسن خالد الى المرحومين صائب سلام ورشيد كرامي وكمال جنبلاط وريمون اده فضلا عن عدد من الشخصيات الشيعية التي كانت على خط الامام).
اشرف المواقف وأشجعها كان موقف الامام الصدر الذي اختار موقعاً اعتدالياً وسطياً تسووياً معادياً للحروب والفتن، بين جميع أطرافها، بين "الجبهة اللبنانية" التي كان يتفهمها وينقدها ويشجب، والمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية التي كان يتفهمها وينقدها وبشجب... ويحب الجميع في لحظة ويكره الجميع في لحظة أخرى، يحبهم عندما يقتربون من لبنان وسلامه وأمنه واستقلاله وسيادته ووحدة ارضه وبنيه، ويحبهم عندما تكون فلسطين ملتقى عقولهم ووجدانهم وذاكرتهم المشتركة ومصيرهم المشترك.. ويكرههم عندما يقولون ويفعلون ما يفكك الوطن ويبعد فلسطين عن مرمى القلب والأمل، وكان وسطاً بين الاجتماع اللبناني الذي استقوت عليه الدولة وبين الدولة التي اغرت الاجتماع بالاستقواء عليها، فكان مقرا بان المجتمع مظلوم ولكن لا يجوز ان يبالغ في مظلوميته بتحريض من اطراف حولها اسئلة كثيرة، حتى لا يؤدي ذلك الى سقوط الدولة، التي سقطت فعلا على رؤوس الجميع بفعل الجميع، وصارت دويلات وديكتاتوريات مطلقة. اصر هو على اعادة بنائها بجهود الجميع وبالجميع من اجل الجميع.. كان وكأنه من المدرسة الهيغيلية في ايمانه بالدولة، عفواً، الأدق انه كان مسلماً محمدياً يقرأ قول الرسول (ص): "يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وقول (ص): "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم". وقرأ بعد ذلك قول علي (ع): "لا بد للناس من امير الخ". إن كنت قد أطلت فاني ادعو الى قراءة موسى الصدر الآن لتفادي ما هو اعظم من عدم انتباهنا الى موقع الدولة المميز في ضرورات اجتماعنا اللبناني والعربي.. ولو اطلت لجمعت نصوص الامام الصدر الذي دافع باندفاع وقوة عن الجيش اللبناني وركز على كونه رافعة الدولة والاجتماع والوطن والسيادة والحرية. وعلى ضرورة ان تكون علاقة المقاومة بالدولة والجيش علاقة تكاملية.
الصبر على الاعتدال
ختاماً، لدي مفارقة اريد ان اذكرها لأذكر المعتدلين بضرورة الصبر على اعتدالهم.. ويقول علي (ع): "ما ترك لي الحق من صاحب"، وقول الله عز وجل "خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين". واذكر المتطرفين الذين يصنفون المعتدلين عملاء ذات اليمين بأن هناك من يصنفونهم عملاء ذات اليسار وهذا يدل على ان التطرف باطل وان الاعتدال هو الحق.. وإذا كان كومبيوتر "الأهرام" قد صنف موسى الصدر عميلا فاني قرأت في وثائق السافاك المسجل عليها "خيلي محرمانه" اي "سري جداً"، وأنها حظيت بمطالعة جلالة الشاهنشاه ما مضمونه: "ان موسى الصدر قد حول المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الى مجلس يساري وشيوعي وانه أنشأ حركة المحرومين وسلحها لتكون ظهيراً للمقاومة الفلسطينية وفصيلا من فصائل فتح ومنظمة التحرير وأن هناك سعياً جاداً لتهيئة بديل له، بين قوى سياسية لبنانية مختلفة وقد قطعت الجهود في هذا الصدد شوطاً متقدماً".
كان السيد موسى الصدر تلميذاً وفياً لنهج علماء الشيعة الكبار في النجف، من ايرانيين وعرب، صهرتهم الحاضرة العلمية والروحية العربية العراقية المنفتحة على طول وعرض العالم العربي والاسلامي.. هؤلاء العلماء ناصروا بقوة الثورة الدستورية في استانبول وشقيقتها (المشروطية) في ايران، على مطلب الديموقراطية، ليثبتوا مرة أخرى ان التقارب هو ثمرة الحرية والتباعد ثمرة الاستبداد. وقد بعث عشرة من كبار المجتهدين العرب والايرانيين رسالتين موقعتين ومختلفتين واحدة الى السلطان العثماني محمد رشاد الذي أعلن (ثم تراجع) عن تمسكه بتطبيق الدستور، خاطبوه فيها باسم الحوزة بلقب الخلافة مؤيدين، والثانية الى السلطان القاجاري (الفتى) الذي تلكأ في دعوة البرلمان المنتخب على اساس الدستور الى الانعقاد، انبوه فيها وهددوه بالويل والثبور، بعدما وصفوه في رسالتهم الى السلطان العثماني، بالصبي المجنون.
بقيت النجف على اعتدالها، وعلمت علماءها بالقول والفعل الانحياز الى الحرية والعدالة، واعطاء الأولوية للسلام الأهلي على حق الجماعة المطلبي، السياسي وحتى الحياتي مع الاحتفاظ بحق الاعتراض، والقدرة على التوقف عن الاعتراض عند الضرورة، كما فعل السيد الصدر، عندما عارض الدولة ثم عاد الى مساندتها عندما اصبحت في خطر.

آخر كلام للإمام.. السلاح ليس الحلّ

مقتطفات من كلام الامام الصدر 
لبعض وسائل الاعلام
[ما هو الحل في رأيك؟
ـ السلاح ليس هو الحل اطلاقا بل علينا ان نُكوِّن الدولة العادلة ولنطلب منها ان تحمينا.
[ما رأيك في القرار الذي اتخذ حول ارسال الجيش اللبناني الى الجنوب؟
ـ موافق مئة في المئة على نزول الجيش إلى الجنوب مهما كانت هويته السياسية..
[لكن اسرائيل كانت لها مطامع في احتلال الجنوب حتى الليطاني؟
ـ هذا منطق مرفوض، ان اسرائيل تحتل الجنوب لانها تريد ذلك، صحيح ان مطامع اسرائيل التاريخية معروفة في الدول العربية لكن ليس من واجبنا اعطاؤها المبرر العالمي..
غير ان المشكلة لم تكن في التسلل الفدائي بل كانت في اطلاق الصواريخ والقنابل على اسرائيل عبر الجنوب وهذا امر غير مسموح به على الاطلاق، فاطلاق الصواريخ والقنابل لا يعد عملا فدائياً أو ثورياً ابداً..
[لكننا بالفعل في حالة حرب مع اسرائيل؟
ـ لا.. نحن نعيش ضمن هدنة عقدت بيننا وبين اسرائيل حتى إشعار آخر.
(مجلة الدستور ـ 26/6/1978)

القضية والجيش

.. أما اليوم فأمام هذه القضية يبدو الوقت مناسباً جداً لانطلاق الجيش اللبناني وتسلمه المسؤوليات وسوف يلتف الجنوبيون بجميع ابنائهم حول الجيش فيخلقوا منه قوة مقدسة حتماً وهذه افضل وسيلة للأمان في المنطقة.
(صحيفة النهار 1978)
[ وإلى أين يمضي الموقف في الجنوب؟
ـوهناك عنصر آخر وهو "الإدراك المغلوط" لبعض جبهات الرفض الفلسطينية وبعض المتطرفين من اليسار اللبناني من ان التوتر في الجنوب يبقي البقية الفلسطينية حية ضاغطة على الضمير العربي ولا شك ان هذا الادراك مع شعور اليمين المتطرف اللبناني.. يلتقيان مع الخطة الاسرائيلية .
(روز اليوسف المصرية 7 ـ 11 ـ 1977)
داخل المقاومة الفلسطينية كل دولة عربية لها جناحها الذي تموله لخدمة مصالحها الخاصة: البعض يعتمد أسوأ المواقف السياسية لمنع اقرار أي حل، أو أي مفاوضات قد تجري مع اسرائيل.
(صحيفة اللواء 9 ـ 3 ـ 1978 ومجلة الراية 19ـ3ـ1978)