كل الشكر والامتنان لسماحة السيد هاني فحص على قبوله دعوة مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، والحضور بيننا لتدشين هذه المؤسسة، وحضور فعاليات مؤتمرها السنوي الأول، والذي يهتم أساسا بالثقافة والدين، والواقع والآمال في هذين المحورين الأساسيين. والحقيقة أن مشروع سماحة السيد يفيض عن المدة الزمنية القصيرة لهذا الحوار الذي نريد إجراءه، لذلك نركز على مسألة الثقافة والدين ضمن هذا المشروع الفكري لسماحة السيد، ونبدأ بالخصوص بملامح هذا المشروع العربي الذي نريد إرساءه.
كيف يتصور سماحة السيد ملامح هذا المشروع العربي؟ ما هي آفاقه وحدوده بالخصوص، كما يراها هذا اليوم، في هذه الظروف السياسية والاجتماعية العامة المحيطة بنا؟

سماحة السيد هاني فحص:

شكرا لكم أيضاً على دعوتي، وعلى إتاحة هذه الفرصة لكوني بينكم ومعكم، يشعرني بأني شيء من الماضي الذي لا يمضي، لأنه مصر على الاستقبال، وعلى ممارسة النقد الذاتي من أجل تأكيد الذاكرة لتكون شرطا للحلم. المشروع العربي المفترض، أو العتيد، يعني ما نتوقعه ونرجوه، مشروع مركب، لم يعد يفيدنا التبسيط والتسطيح. البسيط جميل، لكن البساطات لا تبني الحضارات، والتحدي الذي يوجهنا تحدٍ حضاري فعلا، التركيب حضاري أكثر، والتركيب يعني قراءة الشروط المتعددة للمشروع الواحد، أو قراءة المستويات المتعددة، أو قراءة الوظائف المتعددة يمكن أن نتكلم كثيراً، لكن الأفضل أن نركز على الشروط المعرفية للمشروع العربي، لتقديري انه لا داعي للمكابرة، لا بد من الشراكة فيه، لا بد من الإصرار على الشراكة، المعرفة الأنجع، المعرفة الأعمق، المعرفة الأوسع، المعرفة الأجدى، والمعرفة التي تنتج معرفة باستمرار، تجدد نفسها بالأسئلة، هي التي تنتج بالشراكة، وتستثمر بالشراكة وتجدد بالشراكة، فيجب أن تكون الشراكة هاجسنا وشغلنا،لأن المنقذ لنا من هذا الضلال البؤس، وهذه البطالة، هو ان نطمح الى المشاركة، مشاركة العالم، الناس الآخرين، في مشروع حضاري ثقافي إنساني، ومن موقع التكافؤ، بمعنى أننا مضطرون للاتفاق مع كل الناس على عدم الوقوف عند مظاهر القوة، عدم الوقوف على الأعداد، عدم الوقوف على مسألة الثروة والفقر، حتى نتشارك فيما بيننا من موقع التكافؤ، وننتج هذه الأطروحة معا، هذه الأطروحة لا يناسبها الشقاق، يناسبها الوفاق، والوفاق لا يعني التطابق لا يعني التماهي، الوفاق يقتضي  تحرير المساحات المشتركة، وضبط مسافات الاختلاف، وإبقاء الجدل شغالا عاملا، حيويا بين المختلف والمؤتلف، بين العام والخاص، بين الذاكرة والحلم، بين الذات والآخر، بين الذات والذات وفي النهاية كما قلت، هذا الشرط المعرفي لا يمكن ان ننتجة إلا معا وهذه "معا"لا تتوقف في مكان.

د. نادر الحمامي

إذن هنالك كلمات مفاتيح فيما ذكرته سماحة السيد، وهي مسألة الشراكة، الوفاق وختمتها ب"معا"، وهذا ربما يخفي هاجسا فكريا لديك، وفي اهتماماتك، واقصد تماما، الحوار الذي تبني في مسيرتك على أمرين اساسيين، أولا الحوار بين الأديان والثقافات كما هوأساسا بين الحوار الإسلامي – المسيحي من جهة، ولكن أيضا وبالخصوص الحوار الإسلامي – الإسلامي الذي يجب أن يفعل أكثر، فهل المقصود هو تدعيم هذا الحوار؟ حتى يصبح هناك نوع من الوحدة في إطار الاختلاف والتعدد، وحتى لا يصبح الاختلاف خلافا؟

سماحة السيد هاني فحص:

ان التعدد قانون كوني، وليس العيب فيه، العيب في إدارته، يعني تحويل الاختلاف كمصدر حيوية وتكامل، إلى خلاف، وهذا التعدد لا يمكن أن نلتمسه في حيز دون حيز آخر، هو موجود في كل مكان، حتى الجماعات الصغيرة الفرعية هناك تعدد داخلها، لذلك يصبح الحوار في الأدني شرطا في الأعلى، أنت تكتسب أهلية الحوار مع العلماني، عندما تكون انضجت حوارك الديني، وتكتسب اهلية الحوار الديني الإسلامي، عندما تكون أنجزت حوارك المذهبي، لأنه حتى داخل المذهب هناك تعدد وهناك مدارس، هناك دماء داخل المذهب الواحد، فإذن، التعدد قانون كوني، يحتاج إلى حوار .

د. نادر الحمامي

الإشكال الذي طرح أحيانا في المستوي الفكري، أو الاجتماعي، وهو ما أشرت إليه في أحد كتبك، حول الهوية الثقافية، فالكثيرون يخافون من مسألة التعدد والاختلاف، فيما يعتبرونه هويتهم الثقافية الخاصة، التي يعتبرونها أحيانا مهددة، لا أدري هل الخوف على الهوية والحفاظ عليها سبب من الأسباب التي تقف وراء قصور المشروع العربي من ناحية فهمهم للهوية؟

سماحة السيد هاني فحص:

 أخاف أن يكون وعينا للهوية أنها كينونة بالتعريف الأرسطي الساكن- أرسطو عظيم- ورأيي أن الهوية صيرورة، لأنها مركبة، البعد الواحد قاتل في الفرد وفي الجماعة، والآخر شرط لمعرفة الذات، الآخر مكون في الهوية، اي آخر، ومن يؤثر القطيعة أبشره بمزيد من الجهل، وإذا كنت أملك حفنة من الحقائق أو حبة من الحقيقة، فأنا اخاف عليها أن تتبدد إذا لم أحاور، بالحوار تصبح الحبة قبة، وبالقطيعة تصبح عدما. والحقيقة أيضا ليست بسيطة، مجزأة، انا أملك بعضا منها لأحافظ على هذا البعض بإنمائه يجب أن انفتح على الآخر. اعود إلى الهوية المركبة أبسط الأمور، أنا هاني فحص من قرية جبشيت، في جنوب لبنان، (لبناني)، مسلم عربي شيعي، إنساني فلاح طالب علم، الآخر ليس عابرا في وعيي وتكويني، الآخر المختلف هو ساكن ومقيم في عقلي، ومقيم في قلبي، هو سؤال يلزمني يوميا أن اتعرف إلى ذاتي، وأن افكك الصورة النمطية لذاتي عن ذاتي، وأن أؤهلها لأن تصبح شرطا للآخر، هذه هي الهوية المركبة، وهي مصدر الحيوية .

 

د.نادر الحمامي:

الحقيقة تعليقك على مفهوم الهوية مفيد جداً، لأنه ينزع ذاك الثبات عن الهوية، فقد اعتبرتها صيرورة، في حين أن الإشكال الموجود في المجتمعات العربية بخصوص الهوية، أن الهوية شيء ثابت، وهو من الماضي، في حين أنك تراه في الحاضر وفي المستقبل، وهو صيرورة، حتى لا تصبح الهوية كما يقول امين معلوف" قاتلة" أو يكتب لنا وجيه كوثراني، "هويات فائضة، مواطنة منقوصة.

سماحة السيد هاني فحص:

لا أريد أن ألغي الثوابت، العكس من لا ثابت له لا متغير له، فأريد أن أشغل الجدل بين الثابت والمتغير، أحفظ المتغير بالثابت، وأحفظ الثابت بالمتغير إلخ، لكن الثوابت فيها درجة عالية من الافتراض، أو التواطؤ أو التواضع , الثابت هو نوع من التواطؤات، لذلك معرفتها متغيرة، هذه المساحة المرنة في الثوابت تتيح لك وتلزمك أن تعيد وعيك بها، أن تجدد وعيك بها، وتجددها في النهاية، لذلك في رأيي أنه في النقد الديني، وفي النقد الفلسفي،ما لم نصل إلى الجدل الحار مع المسلمات، تصبح المسلمات في خطر، لا بد أن نهز شجرة الثوابت لنعرف اين يوجد الخلل، حتى نجدد معرفتنا بها، ونجدد سقيها ورعايتها، واستثمارها إلخ. في نفس الوقت هناك متغير، إذا لم تتجدد به، لن تستطيع أن تجدد الثابت أو وعيك بالثوابت.

 

نادر الحمامي:

ولكن ألا ترون معي سماحة السيد، أن مسألة الهوية ومحاولة جعلها من الثوابت

هي في حقيقة الأمر اصبحت طاغية اليوم، وأن الخطاب الهوياتي هذا، أصبح يستعمل في الشأن السياسي، إلى غير ذلك، لتمرير إيديولوجيات معينة إلخ؟

 سماحة السيد هاني فحص:

الهوية المركبة عظيمة جدا وتًحمل مشروعا كبيرا، الهوية هاجسها الدولة، الهوية الحصرية، الهوية الاختزالية، هاجسها السلطة، والسلطة  من دون دولة تقوم على إلغاء الآخر، وعلى نفيه، والهوية أيضا فيها درجة من الحركية، أعني  الهوية بمعنى الصيرورة. الهوية الأحادية سكونية. وأكثر من ذلك، احد معاني حرية الهوية المركبة، أن مستوياتها متعددة ومتكافئة، ولكن داخل التاريخ، داخل الوعي، وليس خارجه، ويمكن لمستوى من المستويات أن يحضر في لحظة ما، ويطغى على المستويات الأخرى، ولا يلغيها،لأن التحدي آت من جهته، وأنت جالس مع الفارسي، يستنهض فيك المكون العربي، وأنت جالس مع الغربي، يستفز فيك- بالمعنى الإيجابي- المكون المشرقي وأنت متدين مع ملحد، يستفز فيه السؤال الأول، السؤال اللاهوتي الأول، فتظهر المستويات، او العناصر المكونة للهوية المركبة بشكل متغير يصبح وعي الهوية جزءا حقيقيا، او فاعلا حقيقيا في إنتاج المعرفة، لأنه يبحث عن السؤال ويعيش على السؤال.

 

د.نادر الحمامي.

.هذا السؤال والثوابت التي تبقى باقية، ولكن دون تحويلها إلى أصنام

 سماحة السيد هاني فحص ( مقاطعا): إلى كهوف

د.هاني الحمامي

إلى كهوف أيضا، كيف سماحة السيد سبل بث مثل هذا الفكر، بأن مسألة الهوية لا تتعارض مطلقا مع القيم الإنسانية، الكونية،لأننا نشهد اليوم أحيانا مهاجمة لقيم كونية إنسانية ثابتة باسم هذه الفائضة خاصة في المجتمعات العربية؟

سماحة السيد هاني فحص:

مساحة الظلام واضحة، هناك ظلام، لكن انا لا أرى فقط ظلاما، أرى نورا، ليس كامنا وحسب، انا لا أنتظره، انا أستمتع به الآن، هناك نور، هذا الكلام الذي تقوله" البحث عن الهوية"، دعني أختصر الكلام، لأننا نحن الآن أمام مشهدين، مشهد تطرف ومشهد اعتدال، والاعتدال في رأيي أصعب، أعمق وأقوى وهو آت، أما  التطرف والتعصب، فهو في المشهد أكثر، بالعضلة أقوى، ولكنه ذاهب، ليس من أهل المعيشة نحن حتى نقلل  الخسائر ونغير المواعيد، ونحقق الأرباح الحضارية المشروعة، هذا الاعتدال الذي هو صعب وجميل، يجب أن يتمأسس ويبقى حالا، وشيئا فاعلا، فالشعر عظيم ولكن الاعتدال ليس شعرا، إذا لم يحمل الاعتدال مشروعا يصبح غير مشروع لأنه يصب في التطرف بسبب العجز.

د. نادر الحمامي

ولكن هل مأسسة هذا الاعتدال هل ترونها سماحة السيد من مشمولات المنتمين إلى المؤسسات الدينية، أو إلى الباحثين الأكاديميين، أوضرورة تظافر هذه الجهود بين الطرفين، حتى الوصول إلى هذا المشروع؟

سماحة السيد هاني فحص:

أنا لا أشترط على الفاعل العامل في مؤسسة الاعتدال أن يكون معتدلا، فليأت متطرف لنتعلم منه، ويتعلم منا كيف ندور الزوايا، وهذا مهم ، وعندما اقول مؤسسة ليس في ذهني مؤسسة بعينها، أنا من دعاة أن نتأسس على الاختلاف في الفضاء الرحب، أن يكون هناك  فضاء تعددي، محكوم بنصاب وحدوي مرن،" دع مائة زهرة تتفتح"( كلام ماو)، مهم، ليس ضرورياً أن نطبق تجربة ماو، لكن كلامه مهم في هذا المجال. ويبقى أن المأسسة لها شروط داخلية، يعني أن نتحول إلى ورشة فيها بعد أكاديمي، مثلا كنا نتكلم على حوار الأديان؟ أنا غير متحمس لحوار الأديان،أنا متحمس لحوار المتدينين , الثقافات والحضارات لا تتصارع، المتحضرون يتصارعون، لذلك هو حوار من أجل الحياة هو حوار الأحبار رأيي أن الآخر هنا يعلمنا الاعتدال، لأنه يجب أن أكتشف شرطيتي فيه، يجب أن أصر على أن يرافقني لقراءة  قناعاتي، منظومتي العقدية الدينية إلخ، يعني الآخر شرط معرفي أضرب مثلا، قلت مرة للمطران جورج خضر ، ياسيدنا تعال لنتفق أن نعيش معا، أن نعيش ونكون مصدر حيوية، ونذهب معا إلى النص الديني، النص الإسلامي، أنا أصر أن تذهب معي، لأن فهمي سيصير ناقصا، أنت شرط أساسي لفهمي للنص وإذا قلنا للنص نحن اتفقنا، فإذا وافق خير وبركة، وإذا لم يوافق نقول له هل تسمح لنا أن نؤولك؟ وعلى فضائك الدلالي الأوسع؟ إذا عاند النص نقول له نحن يا سيدنا النص يا حبيبنا لا نريد أن نلغيك، بل لن نقبل أن  تلغينا ايضا ، نحن نص أيضا

د. نادر الحمامي:

ونفس الشيء أيضا ينطبق ترى سماحة السيد حول الحوار الذي يجب أن يقوم بين المذاهب الإسلامية نفسها

سماحة السيد هاني فحص:

مقاطعا( : أهل المذاهب)

د. نادر الحمامي:

.أهل المذاهب

سماحة السيد هاني فحص

إذا كانت المذاهب متناقضة، فلا حاجة لها، فلتذهب .. والتعدد والإختلاف والتباين والتضاد ليس تناقضاً، لأنه ليس إلغاء، وإلا كان على الإختلاف داخل المذهب الواحد أن يختفي.. لا أعتقد أن لدينا تعريفاً جامعاً مانعاً لأي جماعة أودين أو مذهب أو حزب أو إثنية.. لأن الإختلاف قانون كوني، ولو كان الإختلاف تناقضاً لزال الكون ، الشيعي الذي يجهل بالسني، هو جاهل بالشيعي، لأن الشيعي لم يتكون خارج التاريخ، تكون بهذه الحركات، المنافسة، الاختلاف مع السني، نحن كونا بعضنا بعضاً لما اقرأ نفسي خارج التكوين العام لا اقرأ شيئا، أنا لا أريد أن أذهب إلى السني لأجل السني فقط، أنا أناني أريد أن أذهب إلى السني، حتى افهم موقعي الشيعي، ودوري الشيعي، وشرطي الشيعي، وعندما أفهم شرطي الشيعي يرتاح السني. نكون قد صنعنا سلامنا .

د.نادر الحمامي.

لأن الإنسان يخاف دائما من ذلك المجهول، فأذهب لاكتشافه ليزول الخوف، ويقوم الحوار والتقارب فيما اعتقد

سماحة السيد هاني فحص:

أقواكم إيمانا أكثركم معرفة.

د.نادر الحمامي:

أظن أننا بهذا الانفتاح على ضرورة الحوار مع الآخر واكتشافه، لا بد من معرفة الذات بالآخر، يمكن ان نصل إلى  نقاط ضوء، تنيرلنا  مستقبل العلاقات فيما بيننا، ومع الآخر أيضا.

سماحة السيد هاني فحص:

أنا الآن موجود هنا بدعوة من مؤسسة فتية اسمها مؤمنون بلا حدود، هذا مصنع ضوء معرفي جديد، ويظهر عليه من البداية أن يحقق شروط دورة إنتاجية حقيقية، لأن فيه عناصر شابة كثيرة، شابة ليس بالمعنى العمري فقط، بل شابة بالمعنى الفكري، وسائرة إلى المستقبل، ولا تريد ان تذهب لوحدها، تريد أن تأخذنا معها، ونحن جاهزون، كي نقدم لها خبرتنا، وإحباطاتنا، وأخطاءنا حتى لا تقع في مثلها. أنا مطمئن أن المؤسسة تبعث على الأمل، وهناك رصيفات لها، أرجو أن يكون التنوع حقيقياً فيها، وأن تتحول إلى فضاء يجمع.

د.نادر الحمامي:

نعدك أن تكون بلا حدود

سماحة السيد هاني فحص:

أنا أريد إيمانا بلا حدود ، ولكن المؤمن له حدود

د.نادر الحمامي

شكرا سماحة السيد على هذا اللقاء ، ممتنين لك وبارك الله فيكم. شكرا