لم يكن النزاع قائماً على الدين في يوم من الأيام كدين، حتى في اوروبا، لم يحصل ذلك، بل كان النزاع والصراع على وظيفته وعلى مداه وتمظهراته التاريخية وصلاحيته وحدوده. كثير من العقلانيين ونحن لسنا معنيين ببواطنهم، يجاهرون بإرادة الدين وضرورة إبقائه في الحياة والحفاظ عليه، على الأقل بسبب إدراكهم كونه مكوناً أساسياً منغرساً في البنية الثقافية العربية العامة وأحد أهم مكوناتها ومحدداتها.
لم يعد خافياً سؤال الدين أيامنا هذه، وإن خفي الجواب وتوارى وراء ستائر الدماء، فقد نُقل إلى تاريخنا وجغرافيتنا بحناجر تعضدها الخناجر الموغلة في الذاكرة الجمعية لتواصل النزف والقتل والتشريد والسحل من دون ادنى اكتراث لمقولة الحضارة.
الجواب الشافي لا يكمن في التعميم، وإحالته الى إشراقات النصوص المؤسسة وإرادات النبوات الاولى من الدين. الكلام ليس هنا والآلام ليست من هناك. ففي وصايا الدين وتعاليمه خروج أكيد من الأنفاق وانتظام رصين في اطوار الروحنة والاستقرار المجتمعي العام. ليس في رسائل السماء إلا حبر الرحمة وطوابع بريد السلام الانساني العام.
من الذي سيخلع على الدين حلل البراءة من الدماء؟ من الذي سيفصل الدين عن المجازر القائمة، وعن الهاوية المريعة التي يُقاد إليها عنوة تحت عناوين الإمارات ومن ورائها المشيخات ومضارب الذهب الأسود؟
من سينقذ الإسلام من بعض المسلمين كما انقذت المسيحية من بعض المسيحيين؟ نحن جاثمون في مجاري الواقع الآسن وساكنو لهيب الجحيم المتناسل، عكس عقارب ساعات العالم كله. الجميع شارد هذه الايام ومنطوٍ في صمت ما بعد الكلام. لقد سقط الكلام.
صباحاتنا العربية تمرغت بالدماء والجثث والدمار والخراب، واختتمت نهاراتنا بمساءات لن تنتهي، لا لأننا فقط نرى ما نراه بل لأننا "اعتدنا أخبار القتل والدماء"، دخلت كل المروعات في ذواتنا وعقولنا وأرواحنا وصرنا كائناتها ومنتجاتها الراهنة. نحن ما عدنا نحن، نحن حطب يحترق.
أين الجرس الذي ينادي فينا جميعاً: حذار من اعتياد مشاهد الدماء، حذار من الإقامة في أبراج الهشيم والتطبيع مع القتل والذبح والاغتيالات، والاستثمار بالكتب المقدسة والهويات الطائفية والمذهبية، وتلاوة اسم الله لفصل الأعناق عن اكتافها، وأكل القلوب بعد إخراجها من دون رفّة جفن امام كاميرات العالم؟ نحن في خنادق الموت عدنا الى مضارب القتل والغارات والنهب والسلب، لقد سلبنا وسبينا حاضرنا وأسلمناه لأيام ما قبل تدوين الحضارة وتسطير المعاصره، وطننا العربي أرض لا سماء لها.
المآذن اليوم شريكة مساهمه في القتل. التحريض قتل معجل أو بأقساط مؤجله، كان ينبغي ان تكون ضمانة للدين والإيمان والإنسان. وخطب الجمعة المتلفزة تصب النفط على النيران وتبارك العنف والقتل بحجج الحفاظ على الهويات ومكتسبات الجينات التاريخية المحملة بالعصبيات الكامنة والدافئة. هي بهذه الصفات تماماً وصفة الأفيون.
لأننا لم نقف ولم يقف أحد ضد تدمير تماثيل غوتاما بوذا، لأننا لم نحرك ساكناً عند تدمير المقامات والمراقد والمزارات والنصب التذكارية للشعراء الكبار، بلى لقد كان طبيعياً جداً نهب الذاكرة التراثية العراقية أمام عيوننا، غنائم حرب!، كل ذلك أبكى الأب ابراهيم سروج على مكتبته وعلى مصير العقل العام في اوطاننا.
لأننا خصخصنا المقدس على طريقة قراءة المقدس من داخل هويات معاقل الدوائر الخاصة، ها هو المقدس يتطاير ويتهاوى. ولأن الانسان نفسه لم يكن يوماً مقدساً بحسب دساتير ومواد تشكيلاتنا العربية القبلية المغلقة، بتنا لا انسان ولا مقدسات، والدين امام شعوب العالم كله في خطر كبير. نعم ينبغي قراءة الدين بما لا يفصله عن التجربة التاريخية لأتباعه. بمقدار ما ينبغي على جبهة الاعتدال الديني استنقاذ الدين من رافعيه امام العالم ممرغاً بالدماء.
الحروب الطائفية والمذهبية لعنة العالم الاولى، لأنها تستسقي من النصوص المقدسة عبر تزويرها وتحريف مبادئها وقيمها ونداءاتها شرعية الإبادة، وقوانين القتل المجاني، وتحفر في هياكل مجتمعاتها اسمى آيات القبول عبر رافعات العصب المتخلف، بحجة تنازع البقاء الوجودي او السياسي.
عودوا الى الدين الأصيل وإلى أنفسكم وإلى معارككم الطبيعية، بذلك تصنعون وطناً عربياً مستقلاً، مقاوماً وحراً ومقتدراً.