انجز رئيس الوزراء التركي الطيب اردغان  حلما عثمانيا قديما بافتتاح نفق تحت البوسفور،مقدما هدية لاتاتورك في العيد الـ 90 للجمهورية  في 29 تشرين الاول2013 " .كان رجل تركيا القوي قد استفاد من تجربة "صيف تركيا العاصف" والعودة الى الجذور الاساسية لتركيا منتهجا خطاً قوميا، متخذاً من كمال اتاتورك رمزاً جديداً له، والذي عبر عنه في مسير "التباسي"، في رفضه للتغيير الذي وقع في مصر حيث ادى الى خروج "الاخوان" من الحلبة السياسية ومن موقع الرئاسة/  حيث شكل ذلك صدمة تلقاها اردغان بعد اعتماده على الاخوان في فترة الثورات العربية لتجسيد حلم عثماني قديم ،لكن التحربة فشلت والحلم انهار .

وقد اشار الصحافي والكاتب"غسان شربل  في صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ4 نوفمبر/ تشرين الاول 2013 الى "ان الأحداث أكدت أن النموذج التركي ليس عباءة يمكن استعارتها بمجرد إدخال تعديلات طفيفة على مقاساتها. فلهذا النموذج علاقة بتجربة أتاتورك الطويلة ودرجة التقدم الاقتصادي ومدى نضج الإسلاميين من فرط الرقص الصعب مع الجيش المكلف حماية الإرث العلماني. لا جيوش الدول التي ضربها الربيع تشبه جيش أتاتورك ولا مؤسساتها تشبه المؤسسات التركية".  

لم تثمر احتجاجات تركيا صيفاً حارا كما حاولت المعارضة التركية، على الرغم من الدعم الذي تلقته من نظام  الاسد وروسيا ، لكي يدفع اردوغان فاتورة دعمه واحتضانه للثورة السورية. لقد فشلت قوى المعارضة التركية من استخدام احداث ساحة "تقسيم" في اسطنبول لتوظيفها بالسياسة، ولم يتخطى حدوده الاعلامية.  فالحراك الذي قاده الشباب التركي الثائر الحالم  بالتغيير وغير الراغب ببقاء اردوغان مستمرا على الحلبة السياسية  لمدة طويلة.

 لم تكن العاصفة عادية، لكن الحالمين بالتغيير وغير المطلعين على اسرار وخبايا وتوجهات قادة الاضرابات وقعوا في ازمة مواجهة مع السلطة. فالتصعيد بالدرجة الاولى يحمل في طياته عداء ايديولوجي بإمتياز متذرعا بما وراء اشجار ومشروع "تقسيم". فالمعارضة التركية اخفقت باسقاط اردوغان وحزبه بواسطة صناديق الاقتراع التي عومته بطريقة ديموقراطية حيث  حصل وحزبه على نسبة 52% من اصوات الناخبيين . 

جاء  اوردغان الى السياسة من حزب"الرفاه"  الذي تم حله عام 1997 ،وتولى قيادته محافظ استطنبول حيث اندلعث التظاهرات ، ليؤسس حزب "التنمية والعدالة" الاسلامي  مع عبدالله غول ،احمد اغولو،"ليتولوا قيادة البلاد عام 2002 في انتخابات ديموقراطية، تجدد ت ثلاث مرات،  واخرها العام 2012 .     

 فشل الربيع التركي والمعارضة تحت مرمى نار اردوغان القومية:

حاولت المعارضة اظهار العداء لاردوغان وحزبه بطريقة الفوضى املة بإسقاطه بالشارع عبر الاعتراضات والاحتجاجات الشعبية، وانتشرت التظاهرات في كافة المدن التركية ذات الاغلبية العلوية والكردية والارستقراطية في الاول من حزيران "يونيو"2013، وقدرت جماهير الشارع بمليون متظاهر، وهذا ما اكده نائب رئيس الوزراء"بولنت ارينس الذي قاد التفاوض مع المعارضة . 

فالاحتجاجات الشعبية على مشروع البناء فوق حديقة "غازي بارك " قد ساهمت بإنتشار التظاهر في كل  المحافظات التركية ،وبالرغم من شدة وتيرتها وانضمام فئات كبيرة مع المحتجين اليها، لكن غياب التنسيق السياسي والمطلبي  ابعد المحتجين والافرقاء السياسيين عن المشاركة في التظاهر ،عكس تظاهرات الربيع العربي التي وحدتها شعارات الاحتجاج العامة "الحرية ،الديموقراطية.

لكن مهرجان اردوغان الانتخابي في 17حزيران 2013 والذي نقل طبيعة الاحتجاج من الشارع الى قبة البرلمان في عملية صراع ديموقراطي منظم يستطيع الرد على خصومه من خلال صناديق الاقتراع والذي طلب من انصاره تلقين المعارضة درسا قاسيا بالديموقراطية ،لقد كان خطاب اردوغان قاسي تصعيدي لم تخلوا تعابيره السياسية من خلط الهاجس الديني  بهاجس التعصب القومي".

استطاع اردوغان ان يظهر للعالم كله بانه رجل دولة قوي لا يهادن من يهدد الامن القومي التركي،  على  اعتبار ان تركية دولة قانون ومؤسسات ،وهو الامين على حماية هذه النظام الشرعي المحمي بالقانون والذي يكفل حق الاعتراض والتظاهر السلمي، وبالتالي هو رهن صناديق الاقتراع القادمة . 

لم يقطع اردوغان زيارته لدول المغرب العربي الذي حاول ان يربطها بمشاريع اقتصادية تؤمن لتركية اسواق تجارية جديدة  في دول ارتبطت بحزب "العدالة والتنمية" بصعود الاحزاب الاسلامية للسلطة . 

فاذا كان اردوغان قد فشل في التعامل مع المتظاهرين ومطالب حركة الاحتجاج باستخدام رجال الشرطة للعنف المفرط في عملية القمع مما دفعه في خطابه الثاني بان يعترف ويقر باستخدام العنف والقوة من قبل الشرطة ومطالبته لهم بعدم استخدام القوة ،فاذا كان زميله ورفيق دربه عبدالله غول رئيس الدولة تعامل مع الازمة بطريقة دبلوماسية احتوائية فان الرجب طيب اردوغان تعامل مع الازمة بالطريقة التركية التي لم تخلو من التكبر والتعنت واظهار القوة امام خصومه، متناسيا بانه رئيس وزراء كل تركية، وعليه الاستماع لكل مطالب المحتجين والمتظاهرين، وعليه ايجاد الحلول لكل المشاكل المطروحة ،بغض النظر عن الجهات التي تطرحها ومدى احقيتها. اردوغان كان ينظر للخصم من خلال معادلة مطروحة على ارض الميدان ،فالخصم يهاجمه من خلال عداء ايديولوجي ، هو رئيس الحزب، والحزب هوالمطلوب .

فالصراع ليس ضد السلطة، وانما ضد الحزب ورئيسه، وهذا ما دلت عليه العبارات والشعارات التي تم استخدامها في الحراك .فالصراع الايديولوجي جمع في طياته اطياف مختلفة في الفكر والعقيدة والتوجه( القومي التركي، الليبرالي،العلماني الشيوعي ،اليساري، الكردي، والعلوي" ،جميعهم تحالفوا ضد حزب "التنمية والعدالة" ورئيسه.فالمطالب التي طرحت في التظاهرات والتي عللت بعدائها لسياسة اردوغان الدكتاتورية القادمة، غابت عنها المطالب المحقة للشعب التركي عامة، مما قسمت الجماهير افقيا بين معارض ومؤيد.

اردغان يمتلك جمهور غفير اوصله و حزبه الى الصدارة، وتمكن من تشكيل حكومة دون التحالف مع احزاب اخرى ،ما سمح له بممارسة سياسة نافذة في تركية ،فالحكومة ستطاعت رفع مستوى الحياة الاقتصادية من خلال تطوير الانتاج الصناعي والسياحي والاستثماري ، والحد من الدين العام للدولة، اذ تحولت تركيا لاول مرة من مدين الى  دائن لصندوق النقد الدولي

 -زيادة مستوى دخل الفرد ما ساهم برفع مستوى رفاهية المواطن التركي والقضاء على البطالة، وتوفير فرص عمل للعمال والمستثمرين الاجانب ، بعد ان كانت البطالة تصل نسبتها الى 10 مليون،  والتي كانت احدى اسباب منع تركيا من الدخول للبيت الاوروبي. اضافة الى نمو دور تركيا  السياسي والاقتصادي في الشرق الاوسط وخاصة بعد الازمة  المالية الاوروبية والعالمية .

لقد استطاع اردوغان الحد من دور المؤسسة العسكرية التي كانت عائقا امام تطور الحياة الديموقراطية، واخراج تركية من حكم العسكر ، مما افشل طموح المعارضة التي حاولت استمالة الجيش التركي في حركة الاحتجاجتها ووقوفها بوجه اردوغان

- على الرغم من المشاركة الكردية الكثيفة في الاحتجاجات، استطاع اردوغان ان يخرج الورقة الكردية نهائيا من التجاذب الداخلي، وعدم المراهنة عليها في الصراع الداخلي، بخاصة ومن خلال اتفاق  اردوغان – اوجلان لحل مشكلة الاكراد في  تركية، وبالتالي فالاكراد لن يغامروا بتحرك يقضي على امال قد تحققت بظل حكومة اردوغان الهادفة الى وضع حد نهائي للصراع الكردي –التركي، الذي وصل الى افاق مسدودة في ظل حركة التغيير العربية والشرق الاوسط .

استطاع اردوغان من خلال سياسته ان يدق اسفين داخل المعارضة التي جمعت بتوجهها الواحد المعتمد على الانتقام من اردوغان، لذلك استخدم معهم النبرة التركية التي لا تخلوا من القومية التي تتخللها نزعة امبراطورية حالمة بالامجاد ،لانها مسيطرة على كل الافكار القومية واليسارية والاسلامية . فالاحتجاجات لا يمكن الباسها ثوبا ماركسيا بظل انحدار الماركسية العالمية، فالقوى التي تظاهرات  في ساحات المدن التركية هي قوى ارتبطت  بالخارج والتي قادتها روسيا وسورية.

فالطائفة العلوية في تركيا ربطت نفسها بالنظام السوري منذ بدء الازمة السوري، وحملت راية النظام السوري في تركيا . والقومية الكردية التي تتخوف من صعود الاسلام السياسي الاردوغاني حاولت ربط نفسها بالاحزاب القومية التركية التي فشلت في حل ازمتها طوال 40عاما من الراهان عليها. اضافة الى الاحزاب الماركسية المتطرفة التي ربطت نفسها والاحزاب الكردية بعلاقات مع روسيا تاريخيا، تستفيدة منها روسيا حاليا . فالتظاهرات التي قادتها قوى متطرفة حاولت ان تفرض صيفا تركيا سا خنا .فالروس والايرانيون والسوريون حاولوا الانتقام من نظام اردوغان الاسلامي بسبب مواقفه من الثورة السورية ودعمه لها، ليس حبا بحقوق الانسان. والجذير بالذكر بان تظاهرات الاول من ايار "مايو"2013، كانت اشد واقوى من تظاهرات  حزيران، والدولة كانت اشد قمعا معها.

فالمعارضة كانت تحاول من احتجاجها التشبه باحتجاج "وول ستريت "، ورفعت شعار"احتلوا تقسيم"، وربما حاولت المعارضة اثبات قدرتها الشعبية وارباك الحكومة للاستفادة من اخطائها ،لتوظيفها في الانتخابات القادمة في اذار 2014 ، لكن تصرفات اردوغان غير المسؤولة جعلتها تفكر بتطوير حركتها التصعدية كما حصل مع مطالب المتظاهرين  في مصر وتونس والتي ادت الى اسقاط الانظمة في الشارع واستمالة الجيش اليها . فهل تكون حادثة "تقسيم "هي نقطة تحول في تفكير حزب اردوغان والتنبه من حالة التململ التي تسيطر على الشارع التركي غير الراضي على الممارسات ،فالشارع التركي خرج ربما بحادثة عادية لدق ناقوس الخطر بوجه اردوغان .

لكن اليوم اردغان امام خطر جدي وجديد تعرض له وحزبه وتحالفه البرلماني  ولايزال مستمرا ...انه هو خطر الفساد الذي صعد اودغان الى السلطة على اساس محاربته، لكنه وقع فيه انيابه ...فالصراع الدائر في تركيا والتي تحاول الايام القامة التي حسمه من خلال الانتخابات والصناديق القادمة حسمه، والتي سيدفع رجل تركيا العنيد الحالم بالسلطة والدائمة والطامح لتنفيذ سياسة اتاتورك ثمنها الغالي . اردغان اصبح هدفا سهلا  للمعارضة التي توحدت ضده بسبب اسلوبه وعجرفته، مما سيدفع الجميع في تركيا الى     خوض انتخابات قادمة تحت شعار ابعاد اردوغان وحزبه عن السلطة، بعد ان قشلت  مقاولة صفر مشاكل مع الجوار. تركيا التي تعاني  اليوم مع كمية هائلة من المشاكل في الخارج والداخل ضد السلطان التركي الجديد الرجب طيب اردوغان .

د.خالد ممدوح العزي ...